الرئيسية / الدينية / الواقع والميتافيزيقا…..صالح الخاقاني

الواقع والميتافيزيقا…..صالح الخاقاني

الواقع والميتافيزيقا


بيّنا في المقالة السابقة أن الميتافيزيقا عنصر مشترك في جميع التعاريف المقدمة للدين، ولاشك أن هذه المفردة هي النقطة الاساس فيما هو دائر من جدل بين الالحاد والايمان منذ بدء الفلسفة. فالملحد يصر على إعطاء الحس دور الحكم الأوحد لصدق القضايا، ومادامت قضايا الميتافيزيقا خارج نطاق الحس فلا معنى للتصديق بها، والمؤمن يتخذ من البرهان العقلي دليلا على صدقها، حيث ينطلق مما في الواقع المحسوس من تناسق ونظام الى ضرورة فاعل ومنظم ذي قدرة وعلم ( بما يسمى برهان النظم) أو برهان المحرك الاول وهو حاجة المتحرك الى محرِك والاخير يحتاج الى محرِك آخر وهكذا الى أن نصل الى محرك أول، وغير ذلك من البراهين.
والواقع أن الملحد المادي لا ينطلق في إنكاره لقضايا الغيب من نفيها بقدر ما هو الاحتجاج على فرض وجودها. فلو دخلنا غرفة ـ مثلا ـ ولم نجد فيها غير لوحة زيتية، الملحد هنا يعترض على فكرة فرض وجود شيء آخر غير اللوحة ولا نراه، ولكن المؤمن يجيب بأن اللوحة لا يمكن أن تكون قد وجدت في الغرفة من تلقاء نفسها، فلا بد من رسام موهوب حذق قد أبدع ما فيها، علاوة على ما فيها من قماش وخشب يحتاجان الى سلسلة من العلل الموجدة لها، بمعنى أنه كما يحتم الحس وجود اللوحة فإن العقل يحتم وجود الرسام، مما يضطرنا أن نغادر الغرفة بحثا عن الرسام وسلسلة العلل. الملحد يصر على رفض العقل والاحتكام الى الحس فقط مدعيا القدرة على تفسير وجود اللوحة من دون مغادرة الغرفة. وواضح أن تعصب الملحد للحس لايمكن أن يوصف إلا بالموقف الشخصي الذي لامساس له بالنشاط العلمي أو الفكري، حيث أنه ـ الملحد ـ نسي، وهو يتعصب للحس، أنه قد مارس عمليتين عقليتين، هما احتجاجه نفسه وإقراره بحاجة اللوحة الى علة.
كان هذا خلال قرون من الزمن، أما اليوم فإنني أجد أننا نعيش مرحلة جديدة من عمر هذا الجدل، وقبل الشروع في بيان المرحلة الجديدة، ثمة ملاحظة هامة علينا الالتفات لها، وهي اننا لو تفحصنا مفاهيم الميتافيزيقا سنجدها، إذا ما استثنينا الذات المقدسة، على نمطين:
الاول: مفاهيم مجردة كالعقل، وهذه المفاهيم يكفي في تعاملنا معها، كحقائق فعلية، عجز الملحد عن تفسير الادراك تفسيرا ماديا منحصرا نشاطه في دائرة الدماغ أو المخ، فالحواسيب تقوم بالعمليات العقلية وتختزن الذاكرة ولكنها لاتدرك
الثاني: مفاهيم مشخصة في عالم منفصل عن عالمنا مثل الملائكة.
إن الملحد طوال القرون الغابرة مابرح يلملم معطيات الفلسفة الطبيعية والفيزياء التقليدية التي كانت تعطي لمكونات الطبيعة من مكان وزمان وحركة، وفي مقدمة تلك المكونات الجوهر أو الكتلة، صفة الثبات. يلملم كل هذا ليصنع منه راية خفاقة تضمن لجحافل الملحدين النصر والقوة.
وقد آن الأوان لهذه الراية أن تنكّس بفضل الفيزياء الحديثة (فيزياء النسبية والكوانتم) التي غيرت خريطة الفهم الانساني للطبيعة بشكل كامل. فلم تعد مكونات الطبيعة من مكان وزمان وكتلة وسرعة وغيرها سوى مفاهيم نسبية، حتى أن عَلما من أعلام الالحاد قد اضطر الى تغيير مفهوم المادة:
يقول لينين (إن تلاشي المادة يعني أن الحدّ الذي وصلت اليه معرفتنا بالمادة يتلاشى، وأن وعينا يتعمق، فثمة خصائص للمادة كعدم قابليتها للاختراق وعدم الحركة والكتلة.. كانت تبدو لنا من قبل مطلقة ثابتة أولية وهي تتلاشى الان، وقد عرفت بأنها نسبية ملازمة فقط لبعض حالات المادة، ذلك أن الخاصة الوحيدة للمادة، التي يحدد بها المادية الفلسفية انما هي كونها ـ اي المادة ـ حقيقة موضوعية، وانها موجودة خارج وعينا).
وقد كان رد السيد محمد باقر الصدر (قد) عميقا في بيان ما في تلك المقولة من بؤس، كمحاولة للذود عن حياض الفكر المادي الملحد: (ومن الواضح أن المادة إذا كانت تعبيرا مساويا للواقع الموضوعي المستقل، وكانت خصيصتها الوحيدة اللازمة لها هي موضوعيتها ووجودها بصورة مستقلة عن وعينا، فالفلسفة الميتافيزيقية الالهية تكون فلسفة مادية تماما باعتبار هذا المفهوم الجديد للمادة، ويرتفع التعارض نهائيا بين الفلسفة الميتافيزيقية والفلسفة المادية ومفهومها عن العالم).
وفي فيزياء الكوانتم حيث اندمج الجسيم بالموجة وتلاشت الحتمية وغير ذلك من حالات أشبه بالسحر فكأننا بها امام عالم فيزياوي آخر مغاير لعالمنا الذي نعيشه
ولو أخذنا قانون انشتاين (ط = ك.س² )، الذي بمقتضاه تتحول الكتلة من ماهيتها الى ماهية اخرى هي الطاقة عن طريق حركة الجسم بسرعة الضوء، لو اخذنا بهذا القانون مضافا اليه حقيقة علمية ثابتة تخص القانون العلمي، وهي أن القانون العلمي لايعدو عن كونه مشاهدة للواقع وتسجيل لوقائع الظاهرة من دون أي تلازم منطقي بين القانون والظاهرة، فمثلا القانون الفيزيائي ( الماء يغلي بدرجة مئة مئوي) هو نتيجة لما شاهده العالِم من غليان جميع عينات الماء التي قام بفحصها في هذه الظاهرة بدرجة 100مئوي، وكان يمكن لهذا القانون أن تكون فيه درجة غليان الماء 120او 300 أو أي رقم اخر لو أن العالِم وجدَ عينات الماء تغلي بذلك الرقم.
إن ما بينتُه من نظرية أينشتاين وما أضفته لها من حقيقة القانون العلمي، تجعلنا امام فكرة لها نصيبها من المنطقية والامكانية العلمية وهي أن المادة المتقومة بالجسم والكتلة حين تحولت، بكليتها، الى ماهية أخرى هي الطاقة بفعل قانون (ط = ك.س² )، صار بوسعها أن تتحول بفعل قانون علمي آخر الى ماهو متقوم به الملاك من حيثية طبيعية في عالمه المنفصل.
ننتهي، من كل هذا الى أن المرحلة الجديدة فيما بين الايمان والالحاد من جدل قد صارت لها امكانية التواجد داخل المنظومة العلمية، وصار بوسع المؤمن التحدث عن تفاصيل، لم يكن ينعتها الملحد الا بالخرافة والجنون، مثل عروج النبي الاعظم صلى الله عليه واله الى السماء أو هبوط الملاك بنفسه أمامه صلى الله عليه واله. بلغة العلم التي يقرها الملحد كواقع فعلي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *