كليتنا كانت منبراً للوعي، ومجمعاً للأطياف السياسية المختلفة، فكنا نتباهى بوجودنا فيها، وبتمردنا على الذوق السائد للسماع، فلا نعترف مثلاً بالغناء السبعيني الممل، مفضلين عليه أغاني عازف الكيتار الشاب إلهام المدفعي، وبعض روائع الفرق التي اشتهرت أغانيها في ذلك الوقت، كعائلة (بندلي) وفرقة (آبا)، و(ديمس روسس)، الذي يبدأ واحدة من أجمل أغانيه (سي يو لف مي) بصوت مميز يشبه عواء الذئاب.. هناك أيضاً الشيخ إمام، الملحن الكفيف الذي حول أكثر قصائد رفيقه الشاعر أحمد فؤاد نجم إلى أغان سياسية في غاية السحر والجمال ومنها: (رجعوا التلامذة) و(الخط ده خطي) و(جيفارا مات). كاسيتاته هي من مقتنياتنا العزيزة التي لا غنى عنها.. وعروض المسرح القومي مع الفن الحديث هي من صميم الوجهات التي نهرول إليها.. كانت الجدية حاضرة حتى في الغناء والمسرح، فكنا نشاهد يوسف العاني وقاسم محمد وفاضل خليل ومقداد عبد الرضا وخلبل شوقي وناهدة الرماح في النخلة والجيران، سامي عبد الحميد في بغداد الأزل، وجعفر السعدي في الآنسة قواعد، وسيتا هاكوبيان مع فؤاد سالم في بيادر الخير. الجدية حاضرة أيضاً فيما نقرأ من مجلدات الأدب ودواوين الشعر، لكن هذا لا يمنع أن يتسلل إحسان عبد القدوس أو نزار قباني إلى قراءاتنا.. أو أن نهرع إلى سينما النصر لكي نشاهد فلماً لعبد الحليم حافظ.
الموضة السائدة هي السروايل العريضة والياقات الطويلة مع اليلكات الملونة للشبان، وهي نفسها للبنات مع قصة الأسد للشعر والنظارات الدائرية الكبيرة جداً، أما الوجوه فطبيعية، والرشاقة حاضرة دون الحاجة للجم والكيتو والدايت.. الحلوة تسمى الحلوة، وليس الحاتة أو الصاكة، والطاش مع الطاك مع الزاحف ليس لهم وجود في عالم يخلو من الموبايلات وعلاقات السوشال ميديا..
في الكلية ناد كان أشهر ما يقدمه هو الشاي حليب مع بسكت ماري، لكن أهم ما يحدث فيه هو اللقاء من أجل العناد على قناعات نظنها ثابتة، بينما هي متحركة ككثبان الرمال.. فنحن في عمر الفتوة والحماس، وكل فكرة نتبناها نحتاج إلى نتجادل حولها كثيراً. و قد تكتسب مراجعات جديدة بعد نقاش نفرغ فيه ما بجعبتنا من الأسماء والمسميات.. مشوار الوعي بدأ يتكون في تلك الأيام التي اختلطت فيها الحقائق مع الأوهام، فنحن نريد أن نصطف مع من يشبهنا.. ونريد أيضاً أن نعرف دورنا في هذه الحياة، وأن نقاتل من أجله بضراوة. وعندما أنظر للوراء أجد فعلاً أن دور كل واحد منا بدأ يتكون في تلك الأيام.. فخرج منا السياسي والكاتب والبروفسور.. كأن تلك اللقاءات لم تكن لعبة نلعيها في عمر الشباب، وإنما معركة وعي ووجود وحياة. يرعاها الصوت الملائكي لفيروز وهي تغني في النادي: يا حبيبي شو نفع البكي وشو إلو معنى بعد الحكي.. مادام قصص كبيرة وليالي سهر وغيرة تخلص بكلمة صغيرة.. حبوا بعضن تركوا بعضن.
السطر الأخير مس قلبي فعلاً.. لأن الذين يقرؤون هذه الكلمات من مواليد التسعينات أو الألفينات سيقولون .. ياااه كم أنتم قدماء.. بينما كنا مثلكم نتباهى بأعمارنا الصغيرة حينذاك.. متوهمين بأننا سنبقى فيها إلى الابد.
الصورة الفوتغرافية اخترتها عن عمد، لأنها ملتقطة في زمن الزي الموحد، بلونيه النيلي والرصاصي، والذي فُرض على الطلاب، لكي يزيل (الفوارق الطبقية) بينهم!!!، أما الصورة الأشمل لتلك الفترة الصاخبة والشائكة من زمن العراق، فمدونة بعض جوانبها في روايتي (العرش والجدول).
