الرئيسية / الادبية والثقافيه / ميسلون هادي : تجربة استعادية للزمن

ميسلون هادي : تجربة استعادية للزمن

قبل سنوات قررت أن أقوم بتجربة استعادية للزمن: أن أمشي المسافة من بيتنا القديم إلى المدرسة، ثم أعود إلى البيت من الطريق نفسه. أي أن أعيش يوماً من أيام طفولتي، واسترجع افتراضيا ذلك الطريق الأليف الجميل بين البيت والمدرسة.. ذهبتُ إلى بيتنا الذي يقع بين شارع عمر عبد العزيز وشارع عشرين في الأعظمية، وكان قريباً من بيوت بعض مشاهير الرياضة والسياسة آنذاك، وقد باعه أبي، بعد فترة وجيزة من تأجيره للحلواني الشهير نعوش، والذي خصصه لمستخدميه الذين يقشرون الفستق والمكسرات.
لم يكن العثور على بيتنا صعباً، لكن الطريق إلى المدرسة هو الذي تحول أمامي إلى متاهة اختفت منها علاماتها الفارقة، فأصبحت روحي في حالة من الجزع شبيهة بعطش عصفور يبحث عن الماء في يوم قائظ: (أين النخلة ذات الفسائل، أين الدكان ذو المنصة، أين بيت عمتي الأثيرة)، لا شيء من حولي سوى طبقة جديدة من الزمن أريد الصعود إليها ولا أستطيع. تدبرت أمري بعد ذلك، ووصلت شارع عشرين، الذي تقع مدرستي الخنساء في قمته، فعبرت الشارع باتجاهها، لأجدها قد تحولت إلى أطلال.
روضتي كانت تقع في الجهة المقابلة لتلك المدرسة، ولأني كنت طفلة هادئة (جداً)، فقد وجد فيّ الأطفال الأشقياء ضالتهم، ورموني بحفنة من التراب في اليوم الأول من دوامي. التهبت عيوني بشدة، وبقيت لعدة أيام أمكث في الظلام، فاشفقت على أمي (الست مديحة)، وقررتْ، بعد شفائي، أخذي معها إلى المدرسة كطالبة مستمعة في الصف الأول الإبتدائي. أظهرتْ تلك المستمعة مقدرة لا بأس بها في الحفظ السريع، ونجحتْ في الإمتحانات بتفوق، فقررت المديرة أن تجعلها تنتقل للصف الثاني الابتدائي كباقي الطالبات. لم أكن أدرك قيمة هذا السبق، إلا عندما اكتشفت لاحقاً بأني سأكون الأصغر عمراً في أية مرحلة أكون فيها. وهو إحساس جميل لو تعلمون.
أعود إلى شعوري عند الوقوف على أطلال المدرسة، لأقول إنه كان غريباً وباهتاً إلى درجة أني غادرت المكان بسرعة، وعدت أدراجي مشياً إلى بيتنا القديم… في العادة تكون المدرسة مقفلة في يوم عرفات، فيعود الطلاب الشطار حزانى إلى بيوتهم، أما أمام ذلك الباب الذي أقفله التراب، فقد قررت أن لا أكرر تلك التجربة الاستعادية مرة أخرى، وأن لا أستجيب ثانية لأي حنين يتحول لاحقاً إلى إحساس موجع للقلب مؤلم للروح.. معه حق كاتبنا الكبير محمد خضير عندما يقول: (وا أسفاه. إن المشاهدة الثانية للأماكن الأصلية لن يكون مثيراً)!!!
الصورة لشارع عشرين في تلك الفترة، وهي بعدسة المصور زهير كاكا.
May be an image of 2 people, road and street

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *