الرئيسية / السياسية / سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 1

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 1

مساء الثلاثاء الذي صادف يوم 19/8/1997 في ساحة حافظ القاضي التي تتوسط شارع الرشيد في العاصمة بغداد كان موعد الانطلاق في احد سيارات الاجرة الذاهبة الى العاصمة عمان إذ كانت الساحة مكان لتجمع السيارات الذاهبة والقادمة من والى الأردن اذ تتوزع شركات نقل المسافرين على جانبي الشارع القريب منها .. أصدقائي الذين حضروا لتوديعي في هذا المساء احدهم غادر عالمنا هذا في عملية اغتيال ارهابية غادرة بعد الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 و الآخرين مازلت احتفظ معهم بعهود الاخوة والصداقة وان باعدتنا عنهم ظروف و مشاغل الحياة وهي كثيرة بلاشك بعد ان اصبحت التزاماتنا و همومنا مضاعفة .. قبل ان تحين ساعة الوداع معهم بساعة .. وقفوا يحيطون بي و كأنهم يودعونني لآخر مرة .. هكذا كانت تنبأ الاوضاع حينها .. معظم الناس وخصوصا الشباب منهم يريد المغادرة .. بعد ان لفظ الوطن ابناءه دفعة واحدة في موجات كبيرة الى خارج الحدود .. الى المنافي المجهولة الى حيث اللاّ عودة .. و هم منهمكين في هذه اللحظات باطراف الحديث فمنهم من يوصيني بالتعامل الحذر و اليقظة من الناس في المدن التي ستختاترها الاقدار لي بعد حين .. وآخر يكتب لي آخر عنوانه البريدي كي أتواصل معه من خلاله .. وآخر و هو السيد قحطان عدنان الياسري Khtan Ali يعطيني بيده نظارة ماركة و يهمس لي بصوت أخوي حميم دافئ ( خويه سلمان قد تحتاج الى مبلغها فهي ماركة .. و فعلا حدث ان احتجت لمبلغها في عمان و بعتها لمحل تجاري لبيع النظارات الماركة هناك وان بخسني سعرها لكنها انقذتني لايام حينها ) .. وانا بينهم انفث حزني و همي في فراقهم و فراق الاهل والاحبة والوطن في آخر سيكارة ( نوع أسبين ) في طرقات الانكسارات والخذلان بعد ان انغلقت ابواب الحياة الكريمة والعيش الرغيد في البلد بعد كل هذه المغامرات العبثية التي قام بها الطاغية حتى أوصلنا الى مما نحن عليها وقتها .. فوعدتهم ان تكون هذه السيكارة الأخيرة كي لا تشكل مصاريفها عبأ إضافي في تدبير امور عيشي وحياتي هناك وانا ذاهب الى المجهول ولا اعرف ماذا يحصل لي هنالك بالضبط .. و بعد أن أومأ سائق السيارة لي للانطلاق .. قبلتهم واحدا بعد الآخر في لحظات مزجت بين الحزن المر و الم البعد لأحبة ورفاق عمر لم اعتد على فراقهم لايام معدودة .. انطلقت بنا السيارة بكل سرعتها مستديرة نحو شارع الخلفاء أذ يجلس الى جانب السائق طالب أردني يدرس البورد في كلية الطب لجامعة بغداد و الى جانبي في الخلف تاجر عراقي لطيف جدا يكبرني بأعوام قليلة .. اعتاد السفر والغربة و يرى فيها متعة بعد ان خاض غمارها لاربع سنين خلت حسب ما روى لي بعد منتصف الطريق .. لم اكن حينها مستعدا للحديث مع أي شخص .. كنت منشغلا تماما مع نفسي .. مع الافكار التي تتزاحم عليَّ مرة واحدة .. مع لحظة المواجهة للمشوار الذي اخترته بقناعة راسخة و إرادة وعزيمة لا ينثنيان بعدما فشلت كل المحاولات لإقناعي وثنيي عن هذا الاختيار وآخرها محاولة خالي ( ابو قاسم ) الى وقت متأخر في الليل إذ استعانت به والدتي لمهمة ان أتراجع عن قراري في السفر ولما لشخصه من تأثير كبير عليَّ ..
اخذ يتولد لديَّ شعور مختلف عن لحظة توديع أصدقائي في حافظ القاضي و ان كان إحساسي منسجما مع ما ترميه على روحي المنهكة شبح السنين التي سأعيشها بعيدا عن الجميع هنا الا انني أكتشف في كل مرة أن سنين الدراسة الجامعية التي قضيتها البصرة و خدمتي العسكرية في بغداد بحلوها و مرها بنجاحاتها وانكساراتها بعيدا عن أهلي هي من تمنحني قوة و عزيمة على تجاوز أي محنة أو أي لحظات صعبة .. لكن في هذه المرة شيء مختلف تماما عن كل ما كنت اشعر به و أحس فيه و يلقي بظلاله عليَّ .. أدرت بوجهي على النافذه التي بجانبي دون أنبس بأي كلمة مع أي أحد .. كانت الافكار و المشاعر التي تتوالد كالبرق في مخيلتي والسيارة تطوي الشوارع والطرق السريعه في اتجاه الطريق السريع المؤدي الى الأردن .. كان شعور قريب الى الشعور بالهزيمة أو كمن طرد قسراً من بيته .. واخذ هذا الشعور يقوى و يتملكني اكثر كلما احسست بأنني ابتعد عن المدينة و يقين في نفسي أنني في سفر طويل لا وقت معلوم له .. بدأت الافكار و مشاعر الحزن والانكسار تأخذ طريقها اليَّ في حوار عقلي تشوبه العاطفة وروح الكبرياء والعزيمة والاصرار .. وتوالت الاسئلة تنهمر عليَّ من أعماق روحي التي خذلتها الاقدار ومجريات الامور التي تحيط بالجميع .. اخذت السيارة تقترب من مدينة ابو غريب القريبة الى الغرب من بغداد .. و قد لاحت لي احد القصور الكبيرة التي بناها رأس النظام إشباعا لعقده و شراهته التي لا تشبعها هذه الاعداد الكبيرة من القصور التي ملأت أرجاء العراق التي اعرفها .. هذا الموقع اعرفه جيدا اذ كان احد الاصدقاء لي و هو مهندس معماري يعمل فيه لسنوات طويلة قبل ان يكتمل ..أخذت الاسئلة تتشكل من طبيعة المشاهدة للقصر .. لما نهاجر قسراً ؟ الى المجهول ؟ الى المنافي ؟ الى حيث الاّ عودة ؟ الى كل هذا البعد والانقطاع عن الاهل والاصدقاء والاحبة ؟ … وهم يتمتعون بخيرات الوطن لوحدهم ؟ وهم يأنسون بما يعانيه العراقيين من جوع وفقر و بؤس ؟ .. ويبنون هذه القصور الفلكية والناس لا تجد ما تسد به الرمق ؟ لم كل هذا الجور الطغيان الذي هم عليه ؟ .. مشاعر الخيبة والخذلان والانكسار تخللها حزن وهم الابتعاد الذي اصبح حقيقة ويكبر كلما ابتعدنا باتجاه الغرب .. الدموع التي كانت تنهمر مني دون ارادتي محاولا حبسها دون ان يتحقق ذلك فلم يكن بوسعي طريقه لإخفاءها عن هذا الرجل الطيب الذي يجلس بجانبي سوى أن أشيح بوجهي عنه بعيدا باتجاه النافذة …مضت السيارة مسرعة تلتهم الطريق وانا على الحال نفسه .. اتلذذ بشعوري الجديد هذا الذي لم يسبق لي أن عشته .. شعور يشحن النفس بأفكار ويطرح اسئلة هي الاخرى جديدة .. لم تخطر على بالي يوما ما .. بعد اذ اصبحت في مواجهة الاشياء كلها .. وبنفس الوقت .. فإندفعت كلها لحظة واحده .. تهيج مشاعري وتوقد حماستي وجرأتي في الافكار والاسئلة وان كانت اغلبها ممنوعة .. وانا اشهد لحظات انعتاق جديدة لذاتي .. وولادة حلم الحرية الذي قضيت كل عمري من اجله .. في ان ارى العالم من حولي .. ليس لشيء ما او هدف محدد .. فقط للحرية ذاتها .. او العيش بحرية و كرامة .. الاحساس بالانعتاق و نيل الحرية و التحرر من مراقبة أجهزة النظام الكثيرة بدأت تتكشف لي في داخل نفسي .. فأحسها مع كل زفرة وتنهيده تخرج من أعماق روحي .. وفي داخلها تكورت كل سنين القلق و الخوف والتشرد والاعتقالات والتعذيب الوحشي والاستدعاءات ومواقف الاحتقار والاذلال والاكراه و الاسئلة و هي تجرف اعماقي جرفا وتحفر بذاكرتي الموبوءة بخيانة مبادئ الحزب و الثورة حفراّ .. بدأ الامل و نور الحرية يشع في طريقي معللا لنفسي الذي اكلها الحزن وقضى عليها الهم .. بدأ الليل يتسرب الى لحظات الغروب و الطريق يقترب اكثر الى مدينة الرمادي .. استدار السائق باتجاه بيته الذي يبعد بعض الكيلومترات الى الشرق من المدينة .. توقفت السيارة .. ترجلنا منها لدقائق معدودة لنستريح استعداداً لمشوار طويل جداً يصل الليل بالنهار .. جاء السائق بأخيه ليكمل معنا الرحلة وهو شاب نشط و محترم كأخيه ..انه مرهق من طريق العوده الى بغداد ولم ينم الليلة البارحة ..
تهيئنا لصعود السيارة و من ثم انطلقت بنا في الطريق الدولي السريع بإتجاه الحدود العراقية الاردنية في طريبيل .. و ما أن سارت بنا السيارة لبرهة دقائق حتى أخرج لي رفيق الرحلة الذي بجانبي حبتين من الفاكهة واعطانياها اشارة منه لكسر ذلك الصمت الذي ساد الرحلة بيننا لمدة ساعتين تقريبا مسافة الطريق بين بغداد والرمادي .. اخذتهما بود واخرجت له من حقيبة اليد قطعة شوكلاته كان قد جلبها احد اصدقائي الذين حضروا لتوديعي هذا المساء .. بدأ حديثه قائلاً :
كنت الاحظك وانت تحاول إخفاء الدموع التي تنهمر من عينيك طول هذه المسافة و كنت موجوعاً لذلك بالرغم ان كل الذين رافقتهم وهم يسافرون لاول مرة تتملكهم نفس المشاعر و نفس الحزن …أضاف قائلا :
لا عليك يا أخي ستتعود شيئا فشيئا و بدأ يحدثني على الغربة وبعض ما واجهه من صعوبات و اخفاقات في بداية عمله التجاري وهو يتنقل بين البحرين و سوريا و الاردن في تجارة مضخاة المياه ..كان حاجز الثقة بيننا حال دون اوضح له طبيعة الشعور الذي انتابني طيلة الطريق وتسبب في كل ما رآه مني بالرغم من اني كنت طيلة الطريق شائحاً بوجهي خجلاً من مشاهدتي وانا على هذا الحال ..كانت رحلة رائعة جدا برفقة هؤلاء الطيبون الذي لا أعلم أين حطت الاقدار بهم الآن … اجتزنا الحدود في ساعة متأخرة من الليل .. بدأت نسائم الصباح تتخلل طريق سيرنا نحو عمان يصحبها شعور بالأمان والطمئنينة فإخذ الشعور بالقلق والخوف يتلاشى شيئاً فشيئاً .. فأصبحت لحظات الحرية مفتاح للسعادة و البهجة و الراحة أزالت معها كل الكوابيس والرعب من انك موضع تهمة و شك دائم لعيون نظام بوليسي يمارس كل انواع القمع والاذلال اتجاه شعبه بدون رحمة او شفقة ..

جميع الحقوف محفوظةلشبكة الخيط الابيض - شكرا لتعاونكم معنا