لا شيء هنا في هذا المكان المنقطع سوى إِنك تستطيع عدَّ النجوم في الليل إذا شئت و تنتظر أن تنقضي ساعاته الطوال حتى تدبُّ الروح فيه عند مجيء الطلاب و الاساتذة في الصباح إليه قبيل بدأ الدوام الساعة الثامنة .. على أية حال مضت هذه الليلة الكئيبة التي أترحت النفس من الحرج و الانزعاج من المشكلة التي تسسبب بها زميلنا المصري مع الادارة هنا .. املاً أن تمضي الامور بسلام دون عواقب أو تبعات في زعزعة الثقة بنا والتي توثقت بيننا في هذه الايام القليلة سريعاً .. طيبون و ودودون و مبادرون لأي مساعدة قد نحتاجها .. جميعهم دون إستثناء .. هكذا هم الاساتذة الليبيون في أول إنطباع أسجله عنهم في غضون اول إسبوعين قضيته معهم في هذا المكان الى هذه اللحظة التي أكلم نفسي فيها الآن .. لا شك إن هذا الأمر قد يخففَّ عنّي الكثير من هذا الحزن الخفي و ثقل الهم الذي لم أعتد عليه من قبل و الذي أخذ يفسد عليَّ كل لحظاتي الجميلة هنا .. بالرغم من إني قضيت سنين كثيرة بعيداً عن الأهل أيام دراستي في البصرة و فترة الخدمة العسكرية هناك في بغداد .. لكنني على الأقل كنت أزورهم كل شهر تقريباً .. هنا اللّاعودة .. المجهول الذي اختاره الكثير من العراقيين بإرادتهم إذ لا سبيل لهم غيره هروباً من جحيم الحصار و قسوة النظام و أوضاع البلد التي هي الأخرى في تسارع الى المجهول .. لقد أصبح عبأ التفكير عليّ هنا مضاعفاً .. تفكر في تدبير شؤونك و حياتك الجديدة و ما تخبأه الاقدار لك .. و كذا في أهلك و أوضاع بلادك التي تسوء يوما بعد يوم .. هذا ما كنت اشعر به دون ان يفارقني هذا الإحساس و ثقل التفكير و لو للحظة ..
مدينة القره بوللي هي الاقرب إلينا من كل المدن الأخرى .. تبعد غرب هذا المكان الى قرابة العشرة كيلومترات .. على الطريق الساحلي و قريبة جداً من البحر .. هممنا انا و الاستاذ عبدالله بالذهاب اليها .. لشراء ما نحتاج اليه و الذهاب لدائرة البريد و الاتصالات كي نخصص صندوق بريد لنا .. ذهبنا اليها في اليوم التالي بعدما سارت الامور بشكل إعتيادي .. كان هذا بسيارة احد زملاءنا الليبيين .. تبضعنا حاجياتنا و من ثم خصّصنا صندوق بريد لنا بعد ان دفعنا رسومه للموظف المسؤول عن تلك الصناديق .. ثم عدنا أدراجنا الى سيدي عمير ..
الاستاذ عبدالله هو الأقرب لي من كل الموجودين هنا .. بالرغم من اختلافي معه من أول يوم .. طيب جدا .. و سخي جدا ..و واضح جدا في حديثه الذي حكى لي به عما جرى له في الكويت .. و مبادر دائما في تدبير شؤوننا في السكن بالرغم من إنه يكبرني في عشرة أعوام .. حكى لي قبل أيام أنه أبعد من الكويت بعدما اعتقتله المباحث الكويتية لمدة سبعة أشهر بسبب كشفهم لخلية تنظيم لحزب البعث هو عضوا بارزاً فيها .. كان ذلك عام 89 قبل إجتياح الكويت بعام ..
إذ كان يعمل مدرساً للغة الانكليزية في احد الثانويات في مدينة الكويت .. لم يزل متمسكاً بالديكتاتور و بعقيدة البعث وبالنظام كله .. ينفي كل جريمة للنظام عندما أتحدث عنها كأي موالي للنظام .. بالرغم من انه عاش ظروفا صعبة وعائلته الكبيرة في السنين الأخيرة بعدما خسر كل امواله في مشاريع خاسرة لم يحسن التدبير فيها .. زميلنا العراقي الآخر كان يسانده في كل آراءه .. بالرغم من إن أحد إخوته قد اعتقله النظام ولم يعرف مصيره الى الآن منذ انتفاضة عام 91 .. ولم أجد تفسيرا لحالته الغريبة .. إذ كان يجب عليه ان يقف على الحياد على الاقل .. و لا اعرف هل كان يخشى منه كونه متحمس للدفاع عن النظام او يقف معه لأنهم من نفس المدينة .. كان هذا لا يهمني بالمرة ولم أسأله عن أسباب موقفه الغريب هذا .. فالجرح الغائر في صدري من النظام اثر إعتقالي عام 87 في الامن العامة في بغداد في ( القصر الابيض ) مازال ملتهباً و لم يخيفني معه أي وشاية أو تقرير قد يرفع عني للمحطة الاستخبارية في السفارة و التي لا تبعد عنا كثيراً .. فهم لا يعلمون أن كل كلمة يدافعون بها عن النظام إنما هي رصاصة يصوبونها نحو أحشائي لتمزقها تمزيق .. إنهم لا يعرفون معنى كرامة الرجال عندما تهان في المعتقلات و السجون على يد جلاوزة النظام عندما يتفنون في تعذيبهم واذلالهم .. لا يعرفون ما يفعله الخوف و القلق في الناس عندما تتعقبهم عيون النظام ويطاردهم في كل مكان .. لا يثنيني هذا كله أن أوضح لكل الزملاء والاصدقاء الليبيين الذين التقي بهم في أي مجلس حقيقة هذا الديكتاتور و ما يرتكبه من جرائم بحق العراقيين .. لا أعرف كيف لإنسان أن يدافع عن ديكتاتور ارتكب كل هذه الفظائع بحق شعبه .. لا أعرف كيف يفكر هؤلاء بالضبط .. كما يبدو أن شمس الحقيقة بدأت تبدد كل هذا الظلام الذي يخفي قبح النظام و شعاراته الباهتة .. بعدما نجح النظام بتلميع صورته في الخارج عن طريق الاعلام و شراء ذمم الكتاب ..
و مع كل هذا الخلاف المحتدم في حديثنا عن النظام ونحن على طرفي نقيض .. كان عليَّ أن أحفظ الود معهم أمام الناس هنا .. حرصت دائما أن نتمشى في المساء الى ربوة قريبة من المعهد مع الاستاذ عبدالله .. فهو الى جانب هذا الكبر و التعنت لعقيدته البعثية كان حريص ان لا يظهر اي خلاف بيننا امام الناس .. نذهب الى هذه الربوة المطلة على الواد الى أن يأتي الغروب .. احاديثه الممتعة بإسلوبه الساخر عن ذكرياته في الكويت كانت كافية لكسر كل هذا الجمود بيننا و السكون معاً .. الربوة عالية بالقدر الذي يمكنك معه ان تشاهد البحر فوقها من على بعد .. منظر مدهش و هو يظهر أمامك كلوحة مرسومة بعناية فائقة .. يرتد المنظر الى بصري بإيحاءاته الرائعة فتريح فؤادي من الهم الذي قد أعتدت عليه .. نعود بعدها الى المعهد سالكين نفس الطريق الميسمي .. هذا كل ما نفعله كل يوم طيلة هذه الفترة .. فالسكن لا يوجد فيه سوى راديو جلبناه من مدينة القره بوللي عند ذهابنا اليها قبل يومين .. لا يوجد تلفزيون في السكن .. فقط هذا الراديو الذي لم يتمكن من التقاط تردد اذاعة العراق .. فقط إذاعة صوت العراق الحر من براغ .. وهي إذاعة المعارضة العراقية .. تطل علينا بأخبار الوطن و سماع الأغاني العراقية التي تذيب كل هذا الجليد و تزيح كل هذا الهم .. أغاني حسين نعمة ( غريبة الروح ) وسعدون جابر ( ياطيور الطايرة ) وحميد منصور ( سلامات ) وداخل حسن ( يمة يا يمة ) وحدها كانت من تستنطق مكبوتات الروح المسكونة بالاوجاع و الخيبات .. فتحيلها الى آهات و أشجان لذيذة لتنعش قلبي و تزرع فيه أملاً جديدا وتجعلني اكثر قوة وأكثر استعداد ليوم عمل جديد ..
أتفقنا أن نذهب صباح الجمعة الى طرابلس هذا ما جرى قبل يوم .. نحن بإمس الحاجة للترويح عن أنفسنا و التمتع بنكهة التسكع في شوارعها التاريخية الجميلة ونسيان ماحدث في هذا الاسبوع الكئيب من أحداث و مشاحنات مزعجة …
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 1
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 2
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 3
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 4
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 5
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 6
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 7
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 8