الرئيسية / الادبية والثقافيه / سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 12

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 12

نهضنا مبكرين في نشاط صباح هذا اليوم الجمعة نهمُّ في الذهاب الى طرابلس .. الصباح كُلَّه بدا مشرقاً و محفزاً للإستمتاع بكل لحظة فيه .. نسمات باردة تهب من البحر تشعرك بقدوم الشتاء مبكراً .. لا أكثر ما يغبط الإنسان أن يعيش اللحظة منشرحاً منتشياً و هو يتأهب للوصول الى الأماكن التي تبعث في نفسه السعادة و الإبتهاج لقضاء أوقات مريحة فيها .. هذا كان كل شعوري في تلك اللحظة وانا أقف أمام بناية المعهد في انتظار الاستاذ عبدالله كي ننطلق الى طرابلس .. كان علينا ان نمشي مع الطريق الى أن تأتي سيارة مارة لتقلنا الى مدينة القرة بوللي .. بدأ الناس هنا يتعرفون علينا أكثر .. الاستاذ عبدالله لديه عوق ولادي في أحد رجليه انقذه من محرقة الحرب مع ايران مما سمح له ان يحصل على عمله السابق في الكويت .. إنطلقنا في السير في طريق متعرج غير معبد قرابة النصف كيلو ميتر قبل أن نصل الى الطريق المعبد الذي يفصل مزارع التنمية على جانبيه .. الى يساره بساتين من الحمضيات و الرمان و يمينه أرض فارغة سوى من نباتات وشجيرات نمت بشكل طبيعي .. راح يكلمني بقلق عن عائلته التي تركها في عمّان قبل أن يأتي الى هنا و إنقطاع أخبارها عنه الى هذه اللحظة من وصوله الى ليبيا .. بدأت أصبره محاولاً تبديد كل هذا القلق الذي لديه .. فرصة ان ننقي الأجواء بيننا بعد أن أفسدتها مواقفنا المختلفة من النظام .. قبل أن نصل الطريق المعبد بامتار قليلة وإذا بسيارة من نوع بيجو حمل تسمى محلياً ( خيمة ) قادمة من هناك تقف الينا .. عرف صاحب السيارة إننا عراقيان ندرّس هنا في المعهد الذي تأسس حديثاً قبل عام .. بدأ حديثه معنا بمشاعر التأسي بحماس عروبي على ما حل بالعراق من تدمير و حصار أرهق الناس وصيَّر عيشتهم صعبة للغاية .. و هذه مشاعر كل الناس الذين نلتقيهم لحظة و صولنا ليبيا دائما ً.. لم يتركنا عند وصولنا الى القره بوللي حتى أوصلنا الى مرآب السيارت و الذي يسمى محليا ( محطة الركوبة ) حيث تتواجد السيارات التي تقلنا الى طرابلس .. ودعناه بعد ان شكرناه على موقفه النبيل .. الاستاذ عبدالله نفث سيكارته بالكامل قبل ان نهم بالصعود الى سيارة الاجرة المتوجهة الى طرابلس .. فهنا لا يسمح بالتدخين في سيارات الأجرة .. أنطلقت السيارة مسرعة بنا .. نقترب من البحر كلما أصبحنا قريبين من طرابلس .. مزارع الزيتون و غابات الاشجار و البساتين المتناثرة على جانبي الطريق و منظر البحر و نحن نشاهده من بعد … جعل الساعة التي أمضيناها في الطريق وكأنها لحظة واحدة في هذا الصباح المفعم بالبهجة و الأرتياح الذي تدفقَّ في روحي دفعة واحدة .. لقد زرعه أمل متعة الأوقات التي سنقضيها في طرابلس بعد وصولنا هناك .. عقارب الساعة تشير الى التاسعة لحظة وصولنا مرآب السيارت الذي يقع بداية شارع الرشيد من جهة البحر .. أقترح عليَّ الأستاذ عبدالله أن نذهب الى البحر لنقضي ساعة هناك .. وافقته حالاً .. فهو بأمس الحاجة للبحر .. البحر واسع جدا و لا حدود له تترآى أمام العين .. زرقته الصافية و نحن نقف قبالة شاطئه الآن .. تحدث كل هذا الصفاء في نفوسنا وتخفف كل هذا العبأ الثقيل من الهموم .. بل قد جعلت الاستاذ عبدالله يتحدث عن ذكرياته مع البحر في الكويت بأنشراح تام و إريحية يذكر فيها ادق التفاصيل الخاصة .. توجنها الى موقع بنايات ذات العماد التي تطل على البحر و هي من ابرز المعالم الحضارية للمدنية .. انها تحفة معمارية تزين البحر والمدينة معاً .. تجولنا في أرجاء البنايات و نحن مندهشين لمشاهدتنا هذه الصروح الكبيرة و المصممة ببراعة .. جلسنا في إستراحة جميلة إتخذت أحد منعطفات الباحة التي تتوسط البنايات مكاناً لها .. أمضينا أكثر من ساعة في هذا المكان قبل ان نتوجه الى شارع الرشيد .. رحنا نتمشى صوب الشارع أبحث عن مكتبة للكتب ..وصلت مكتبة كبيرة للكتب والمجلات والصحف .. إستوقني كتاب يتحدث عن حرب الخليج .. تصفحته قبل أن أشتريه .. كتاب مذكرات حرب الخليج المخفية لنورمان شوارسكوف ( نورم الدب ) قائد قوات التحالف الذي قاد الحرب على العراق .. أخذت الكتاب واكملنا مسيرنا على مهل انا و الاستاذ عبدالله في الشارع قبل ننعطف يميناً في شارع عمر المختار .. ذهبنا لمقهى يرتاده الكثير من العراقيين هنا .. وجدناه مزدحم بهم هذا اليوم .. بعضهم يعملون في طرابلس و الآخرين من كل المدن و الأماكن القريبة من طرابلس هنا مثلنا .. يأتون الى لقاء زملاءهم واصدقائهم من العراقيين و للترويح عن النفس و قضاء أوقات جميلة هنا .. لما توفره هذه المدينة العريقة من كل اسباب الراحة و الامان و جمال الاماكن و المحال والبضائع بكل انواعها .. تعرفنا على بعض العراقيين هنا فهم يعملون في اماكن متباعدة .. أغلب العراقيون هنا يريدون السفر الى أوربا الاّ ماندر .. الجميع إستيأس من تغيير أو تحسين الأوضاع .. كل أخبار الوطن تشير الى ذلك .. بل على العكس تماما .. النظام بدأ بإحكام قبضته تماما على الناس .. إستحدث مليشيات كثيرة تعينه على القمع و الرصد .. هممنا بالرجوع الى سيدي عمير بعد ان تناولنا وجبة الغداء في مطعم قريب من المكان ..
وصلنا السكن آخر المساء بعد أن أمضينا ما تبقى من هذا اليوم المليء بالتفاصيل والاماكن الجميلة والتي أزاحت كل هذا الهم والحزن الذي تكور في نفوسنا كل هذه المدة .. آخر ساعتين أمضيناها في القره بوللي نتبضع كل ما احتجنا اليه في السكن من اكل و مواد .. أنكببت على قراءة كل ما هو مخفي عنّا من حرب الخليج في هذا الكتاب الذي اشتريته اليوم ..
إنه يوم جميل حقاً و جرعة معنوية منشطّة تعطيك دعما قوياً و حافزاً كبيراّ … لتبدأ عملك بكل جد و نشاط لهذا الإسبوع الذي يبدأ غداً ..