الرئيسية / الادبية والثقافيه / سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 2

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 2

في صباح مثل هذا اليوم 13/9/1997 أقلعت بنا الطائرة من مطار الملكة عالية في عمان متجهة نحو مطار ( توزر ) في أقصى الغرب التونسي بالقرب من الحدود الجزائرية .. كل ركاب الطائرة الذين هم قرابة المائتا راكب من العراقيين المتعاقدين مع وزارة التعليم و التكوين المهني عن طريق لجان التعاقد في السفارة الليبية في عمان .. و معظمهم اساتذة جامعات و مهندسين ومدرسين بإختصاصات مختلفة .. الاسبوعين التي امضيتها في عمّان كانت بمثابة نافذة كبيرة على هذا العالم الواسع والمتطور جدا الذي انقطعنا عنه تماما ما يقارب العقدين من الزمن .. هواتف النقال يحملها الجميع تقريبا هنا .. نشاهدها لاول مرة .. مقاهي الانترنيت المنتشرة في كل مكان التي بإمكانك أن تستخدمها بدون أي رقيب امني كما هو في العراق وقتها و المحدودة جدا .. المجلات والصحف والكتب بأنواعها الاجنبية والعربية و المحلية التي غابت عن مكتباتنا ومتناول القراء لأكثر من 12 عام تقريبا سوى بعض الجرائد والمجلات الرسمية المحدودة .. فكانت مكتبة عمّان التي تقع في وسط العاصمة بجوار الساحة الهاشمية وجهتي لقضاء معظم الاوقات فيها خلال هذه الفترة .. تحصل على كل ما تريد مطالعته مجاناً فيها .. صرامة في تطبيق القوانين واضحة بشكل جلي في كل انحاء الحياة .. حتى أن المواطنين تعودوا أن يقفوا بطوابير منتظمة في اي مكان .. تشاهدهم امام افران الخبز .. مواقف الباصات و حتى سيارات الاجرة الصغيرة .. لم يتبقى على موعد السفر سوى ثلاثة أيام .. ولم يتبقى عندي سوى دينار و نصف دينار أردني تقريبا .. و هو مبلغ بالكاد قد يكفيني ليوم واحد .. و هو ما تبقى من مبلغ ال 50 دولار الذي سمح لي النظام بإخراجه معي .. المبلغ الذي اقتصدت فيه لتدبر معيشتي و اجور النقل لعشرة أيام .. لم يكن هناك أمامي من سبيل الاّ الاقتراض .. توجهت مسرعاً نحو فندق ( باب العامود ) الذي يبعد امتار قليلة عن مكتبة عمان و الذي ينزل فيه أحد أقربائي الحاج ابو كاظم رحمه الله ( أبن خال والدي ) دائما .. قبل أيام معدودة التقيت به وتناولنا طعام العشاء سوية في المطعم العراقي الذي يطل على الساحة الهاشمية من شمالها .. كان هذا في ليلة الجمعة السابقة .. موظف الاستقبال في الفندق شاب فلسطيني قام باستقبالي فهو تعرف عليّ منذ اليوم الأول لمجيئي لعمان و زيارتي للفندق بهدف اللقاء بالحاج ابو كاظم .. بادرني بعد إن ردَّ التحية : اتصل بي الحاج ويقول لك عند حصلولك على عقد تخبرني بذلك كي آتي لتوديعك و ما تحتاج اليه .. إتصل به موظف الاستقبال فأعطاني الهاتف .. أخبرته بتوقيعي العقد قبل يومين و حصولي على تذكرة سفر مجانية من مكتب الخطوط الجوية الليبية في منطقة العبدلي وسط عمان .. طمئنني بالقدوم قبل موعد سفري الذي يصادف صباح يوم ( السبت ) .. ذهبت بعدها الى البيت الذي أسكنه مع بعض الأصدقاء في منطقة ( الجبل النظيف ) احد الجبال التي تحيط بالمدينة .. كان في إنتظاري أحمد مدرس الكيمياء في احد الثانويات لمنطقة أوجلة الى الجنوب من مدينة بنغازي .. و الذي يقضي إجازة العطلة الصيفية في عمان .. و يحاول جاهدا السفر الى احد الدول الأوربية .. و هو هدف و حلم معظم العراقيين في الخلاص مما هم عليه من ضياع ومستقبل مجهول لم تتضح معالمه بعد سوى ان ان تزداد الاوضاع سوءا كل يوم .. كان مع أخيه يسكن معنا في هذا البيت الذي أستأجروه منذ مدة قبل أن التحق بهم على سبيل الضيافة الى نهاية الشهر ..
تناولنا الغداء الذي حضره احمد لنا .. سنتين في أوجلة جعلت ما يطبخه طيب المذاق .. اتفقنا ان نذهب سويةً الى الساحة الهاشمية مساء اليوم .. قضينا وقتنا في الحديث عن مدن ليبيا .. وطبيعة المجتمع .. فهو يرتبط بعلاقات وصداقات طيبة هناك حسب ما حدثني عنهم .. وصلنا الساحة الهاشمية في الساعة الخامسة .. سبقنا الى هناك الكثير من الاصدقاء الذين تعرفنا عليهم خلال هذه الفترة الوجيزة .. فالساحة هي ملتقى العراقيين دائما .. فلو ان مابثوه من شكوى والم وخذلان هنا قد كتب .. لا شك أن عشرات المجلدات ولا ابالغ اذا قلت ان المئات منها لاتكفي ان توثق قصصهم الموجعة و الحزينة حد اليأس والاحباط .. لم تمر سوى ساعة واحدة واذا بأقاربي أراه يهم مسرعا باتجاه الفندق الذي يقرب منا على بعد مائتي متر تقريبا .. فذهبت اليه بعد ان استأذنت من احمد و من الاصدقاء الذين كانوا معي .. اللقاء كان حاراً و غامراً بالفرح وانت ترى واحد من أهلك في لجة حياة الغربة التي لم أعتد عليها من ذي قبل .. ذهبنا سويةً الى المطعم العراقي القريب منا .. سألني عن أحوالي و ما أنا عليه .. ثم اردف قائلاً : أني أعرف جيداً أنك على وشك السفر و تحتاج الى مبلغ يؤمن وصولك هناك لحين إستقرارك وإن مبلغ ال 50 دولار لايكفي الا اسبوع هنا في احسن الاحوال .. قلت له : نعم .. فأقسم عليَّ أيماناً غليظة .. كل ما تحتاج اليه سيكون عندك الآن وعلى هذه الطاولة التي تتوسطنا .. وأشار الى جسمه ( تقص من هنا وتأخذ ) .. شكرته بفرح لان مبادرته وفرت عليَّ ذل السؤال لإستقراض المبلغ .. الحَّ عليَّ كثيرا أن أأخذ معي مايزيد على ال 200 دولار .. فأصريت على أن 200 دولار كافيه لذلك .. تناولنا طعام العشاء .. وغادرنا سريعا نحث الخطى .. أوصلته الى باب الفندق الذي أعتاد أن يقيم فيه أوقات تواجده في عمان .. مرت الأيام الثلاثة سريعاً .. حتى جاء منتصف ليلة السبت حيث ودعت كل إصدقائي في البيت متوجها نحو منطقة العبدلي التي تتواجد فيها الباصات الخاصة لمطار الملكة عالية ..
واصلت الطائرة رحلتها محلقة فوق البحر الابيض المتوسط .. كان الطيار حريص ان يحلق في أرتفاعات واطئة فوق الجزر والشواهد .. لا اعرف هل انه تقليد لدى شركات الطيران تجاه زبائنها .. ام لأنه كل ما في الطائرة من ركاب هم عراقيون لم يألفوا السفر وركوب الطائرات منذ عقود .. كان أول الشواهد هو قبة الصخرة لبيت المقدس .. وجزيرة قبرص وجزيرة كريت .. وما أن حلقت الطائرة قبالة السواحل التونسية .. حتى استدارت الطائرة نحو الجنوب الغربي لتونس باتجاه مطار توزر و كل الركاب يتابعون الرحلة بشغف .. هبطت الطائرة في ارض المطار بعد نصف ساعة تقريباً من دخولها الاجواء التونسية .. و بعد ان تم الانتهاء من إجراءات الدخول في المطار لكل الركاب لهذه الرحلة .. توجهنا للحافلات التي كانت تنتظرنا لنقلنا حيث وجهتنا الى ليبيا .. كان هناك أمامنا مئات الكيلومترات للوصول الى معبر رأس جدير في الحدود الفاصلة بين الدولتين .. اخذت الحافلات تطوي الطريق الصحراوي الذي تتخلله واحات من النخيل فيها بيوت تبدو انها من الطين لأول وهلة متبادعة بين الحين والآخر .. الاجواء حارة والرطوبة عالية واخذت شمس الظهيرة تعتلي قبة السماء الصافية .. ساعات طويلة من التعب و الارهاق والسهر كان كافيا للجميع ان يجمعوا على التوقف في اقرب مكان للأستراحة فيه .. الى ان وصلنا مدينة مدنين .. توقفت كل الحافلات في المطاعم القريبة من المدينة .. تناول الجميع طعام الغداء الذي تأخر قليلا بسبب هذه المسافات الشاسعه التي طويناها ونحن نهمس لبعضنا البعض .. أين هي تونس الخضراء من كل هذه الصحاري التي طويناها كل هذه الساعات .. استمرت الحافلات مسرعه نحو الحدود .. ومن شدة التعب والاعياء والنعاس والنوم المتقطع في الحافلات .. لانعرف متى جاء وقت الليل مسرعاً ليحجب عنا مشاهدة معالم المدن و القرى التي نمر بها .. حتى جاء منتصف الليل لنكون على قرابة عدة كيلومترات من الحدود الليبية .. توقفت الحافلات عند المعبر التونسي .. ترجل الجميع لإتمام إجراءات المغادرة .. وبعد اقل من ساعة دخلنا الأراضي الليبية .. الكثير من المحال التجارية المحيطة في المعبر مغلقة كوننا في منتصف الليل .. وبدأ اللون الأخضر يملأ المكان .. إذ كل الأبواب للمحال صبغت باللون الاخضر .. والشعارات الثورية التي اعتدنا عليها هي ايضا توشح الجدران والشواهد في البوابة الغربية لليبيا ..
كل ما حدثني عنه احمد المدرس في أوجله بدأت أقرأه بسرعه .. ومن أول ساعة .. حدثت احد أصدقائي .. إننا في العراق تماما .. قلت له إقرأ الشعارات جيدا .. لتعرف إنني على حق ..

جميع الحقوف محفوظةلشبكة الخيط الابيض - شكرا لتعاونكم معنا