الرئيسية / الادبية والثقافيه / سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 8

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 8

المدير علي حسن و إثنان من العراقيين من الذين يدرسّون معه في ثانوية ( الهادي عرفة ) الكبيرة .. هما من كانوا في توديعي و انا أهم في الذهاب الى منطقة سيدي عمير التي تقع شمال بلدية العلوص بين البحر وبين الطريق الساحلي الذي يصل شرق ليبيا بغربها .. أستاذ اللغة العربية و علوم القرآن يوسف هو الآخر ودعنا قبل يومين الى مدينة الخمس .. هكذا هي الحياة كما يبدو .. في تغير دائم .. و لا تستقر على حال .. لكننا ماضون في دروبها .. جبلنا على مسايرتها بالرغم ما تفاجئنا به بما لا يسر خاطرنا .. أنها الطبيعة البشرية .. الإصرار على مواجهة الحياة و الأقدار .. اكثر من شهر قضيته في العلّوص كان نافذة جيدة للتعرف على الناس هنا .. اللهجة اصبحت مفهومة لي أكثر يوماً بعد يوم بشكل أفضل .. أصبح لي أصدقاء هنا من العراقيين و الليبيين .. شخصية الاستاذ علي حسن الأبوية و الحانية و متعة الأماسي معه عندما نقضيها و نحن نتنقل في مناهل المعرفة و الادب و الشعر .. تهدر الاشعار من صوته الرخيم كترانيم قداّس يتغلل في اعماق الروح صفاءاً وعذوبة .. يتوقف ليقصَّ لنا حكايته مع قصيدة ( دجلة الخير ) للجواهري : فهو يحفظها عن ظهر قلب ويرددها كثيراً عندما يجد به الوجد للوطن عندما كان بعيدا عنه فترة اكمال دراسته العليا في مالطا ويسترسل في حكايته اذ يقول كنت أذرف معها دموع حرّى .. كانت شخصيته مبعث إطمئنان وراحة لي و لكل العراقيين هنا .. أمراً ليس بالسهل أن أغادر هذا المكان الذي أحببته .. و أحببت كل الذين تعرفت عليهم من قرب .. و أذهب الى مكان جديد .. لا أعرف كيف ستسير الامور فيه هناك ..
ودعتهم على أمل أن أزورهم في الأيام القادمة .. هذا ما وعدتهم به ..
بدأت السيارة تشقّ واحة كثيفة من بساتين البرتقال و مزارع الزيتون الممتدة مع الأفق على جانبي الطريق و هي تسير بنا نحو منطقة سيدي عمير .. سحب بيضاء متقطعة تسير ببطىء كأسراب طيور أنهكها تحليق لماسفات طويلة قادمة من البحر تظلّل الطريق .. أحدهم تطوّع أن يوصلني لمكان عملي الجديد .. أخذت السيارة تقترب من البحر أكثر و تنعطف مستديرة نحو الغرب .. و هو يعرفني بالأماكن التي نمر بها .. بدا المكان الذي تسير في السيارة مرتفعا بعض الشيء عن البحر ويمكنك أن تشاهد زرقته بوضوح .. بساتين النخيل و الحمضيّات و الزيتون تتناثر على جانبي الطريق .. أدهشني المنظر الساحر .. وكأنه لوحة فائقة الجمال مرسومة بعناية واتقان تام .. قد جسدتها الطبيعة والانسان في كل هذا المنظر المخملي حد الإبهار .. و كل هذا النسيم البارد الذي يتأتى من البحر و الذي يضفي على أجواء الصباح بهجة و تفاؤل .. كانا قد بعثا في نفسي الإرتياح و جددا الأمل في روحي من جديد ..وصلنا بناية إدارة التعليم في سيدي عمير .. كان الأستاذ عامر بن مجيد في إستقبالنا .. يشعرك بالثقة و الطمئنينة من أول دعابة تطلقها روحه المسكونة بالمرح و النقاء و الطيبة .. و يزرع الابتسامة عنوةً على مراجعيه بالرغم من إنهماكه في الشغل .. فهو يدير الامور الإدارية و المالية لمنطقة بأكملها .. هذه هي النفوس الكبيرة .. التي تعودت ان توهب المحبة دونما مقابل للآخرين .. لتحفر طيبتها و ظلال أرواحاها الشفافة في مكامن الذاكرة .. توجهنا بعدها الى المعهد الذي أعيد تنسيبي إليه .. يبعد بضعة كيلومترات عن المبنى الإداري للتعليم .. واصلت السيارة مسيرها نحو الغرب لبضعة كليلو مترات حتى انعطفت مستديرة جنوباً في طريق تغطيه اشجار الصنوبر و اليوكالبتوز العالية .. عمرها يبدو قديماً منذ إنشاء الطريق الذي ينتصف مزارع التنمية هذه والتي أنشئتها شركات أجنبية في السبعينيّات في مناطق كثيرة في ليبيا .. المزارع والبساتين متوزعة على جانبي الطريق الى المعهد وكذلك البيوت فهي منتشرة بالقرب من هذه البساتين او في هذه المزارع والتي يطلق عليها محلياً ( إحوازة ) .. أخذت السيارة تسير ببطئ و هي تنعطف وتستدير لأكثر من مرة قبل ان تصل المكان .. المعهد تأسس منذ عام .. لم تؤسس له بناية خاصة .. دمجت مع هذه المدرسة التي اتواجد فيها الآن .. مدرسة عريقة حتى أن بعض من زملائي من الاساتذة الليبين تخرجوا منها .. تحوي على ثانوية هندسية و على مدرسة إعدادي وفي المساء تشغل المدرسة لمرحلة التأسيسي .. لا مقارنه بين بنايات ثانوية ( الهادي عرفة ) التي قامت ببناءها شركة كورية حديثاً و بين مدرسة ( الإستشهاد ) في بنايتها القديمة و التي دمجت معها كل هذه المدارس .. حفاوة الاستقبال كانت طاغية على اللقاء الاول بالكادر التدريسي .. عراقيون و مصريون و ليبيون وفلسطيني واحد هم الكادر التدريسي لهذا المعهد و ثانوية العلوم الهندسية للكهرباء .. لم يسمح ما تبقى من وقت الدوام لهذا اليوم أن أتعرف على زملائي الجدد .. لكنني قد حفظت هيئاتهم على الأقل .. غرفة واحدة للسكن هي كل ما سمحت به البناية .. حشرنا أنفسنا فيها حشراً .. ثلاثة من العراقيين و ثلاثة من المصريين .. في غرفة لا تسع الاّ شخصين في احسن الأحوال .. صبورتان كبيرتان رصفت مع بعضهما تسندهما قطع اسمنتية تسمى محلياً ( بومشي ) أعدها زملائي قبل وصولي لننام عليها .. متراصفين جنباً الى جنب .. كان النوم متقطع .. فكل حركة يجلس معها الجميع .. لا تستطيع ان تتحرك في هذا الوضع بأناة الأ أن تقوم بتشغيل مصباح الغرفة .. وهذا يعني إزعاج و إستيقاظ البعض .. أحدهم يجلس متى شاء منتصف الليلة او بعدها بساعة أو ساعتين .. ليقوم بتشغيل مصباح الغرفة و يذهب للتوضأ و من ثم يأتي ليمسك القرآن الكريم و يقرأ بصوت عالي دونما أي مراعاة لوضع نومننا الصعبة التي لا تجتمع ساعات النوم فيها على ثلاث أو اربع ساعات بالكثير .. استمرَّ على هذا الحال لمدة يومين الاّ اننّا ثرنا عليه و حذرنّاه من تكرار ذلك .. و اتفقنا على ان يُفتَح المصباح وقت صلاة الفجر للصلاة و لقراءة القرآن .. أيام قليلة ليذهب إثنان من الاساتذة المصريين لجلبوا عوائلهم من مصر ويستقروا في منطقة سيدي عمير .. ليوسعوا علينا المكان بعد أيام من المعاناة و التزاحم .. هكذا هي الأيام بدت تتكشف لنا اكثر واكثر .. كل يوم حال .. فأيام العلّوص الهادئة مرّت سريعاً كالبرق .. و أقبلت هذه الأيام تقاسي فيها صعوبة العيش .. فالمكان شبه منقطع تقريباً .. يتوسط بساتين وإحوازات و أراضي زراعية ..

جميع الحقوف محفوظةلشبكة الخيط الابيض - شكرا لتعاونكم معنا