ها نحن نهمُ للصعود في سيارة الأجرة من نوع بيجو التي تتأهب للإنطلاق الى مدينة ( الخمس ) .. والوقت قد ناصف النهار .. كل شيء قد بدا واضحاً .. الشعارات التي خطت بعناية على جدران المعهد في منطقة جنزور .. صور الزعيم القذافي تتوسط الساحات العامة و مداخل المدن و معظم واجهات البنايات التي صادفتني لغاية اللحظة .. كل الذي حدثني عنه احمد مدرس الكيمياء في مدينة أوجلة الذي سكنت معه في عمان ماثلاً في الشواهد التي صادفتني ليلة أمس ونهار اليوم .. كل وصاياه حفظتها عن ظهر قلب .. و كلما صادفتني صورة للزعيم أو شعار أتذكر وصاياه و أذكر نفسي أن أكون حذر جدا في أي حديث هنا قد يتطرق أو يجر للسياسة .. فالأوضاع هنا لا تختلف كثيراً عما هو في العراق .. ها أنا قد أتيت من جمهورية الخوف الى جماهيرية الخوف .. مشاعر القلق و الخوف الحذر بدأت تتملكني من تلك الشواهد التي تصادفني لحظة انطلاق السيارة نحو مدينة الخمس .. السائق بدأ حديثه معنا بحماس مشوب بالعاطفه .. أخذ يحدثنا عن مدينته الخمس .. و يردد بين الحين والآخر عبارات الترحاب و الضيافة بلهجته التي بدت غير مفهومه لنا في باديء الامر .. فنحن هنا لأول مرة و في أول يوم .. لكننا على أية حال لسنا في بلد أجنبي .. نفهم ما يقوله و لو بصعوبه .. أخذت السيارة تسير مقتربة من البحر في الطريق الساحلي الذي يمتد بمحاذاة الساحل للبحر .. يقترب تارة و يبتعد تارة عن البحر بحسب طبيعة المناطق التي يمر بها .. بدأت زرقة مياه البحر تلوح لنا .. بدأ المنظر ينعش نفوسنا .. و يشغلنا عما كل يجول بخواطرنا و نحن نشاهده لأول مرة .. السائق لم يدع كاسيت في سيارته الا وحاول إسعادنا في سماعه .. ذائقته الموسقية راقية جدا .. وكل الأغاني التي يضعها في مسجل السيارة يحفظها عن ظهر قلب .. هذا ما تكشف لنا من اختياراته لنا من الأغاني .. ام كلثوم و ناظم الغزالي و عبدالحليم .. كان يحدثنا طول الطريق عن سفره الكثير الى بلغاريا و هنغاريا الدول الاشتراكية أيام السبعينييات كالكثير هنا من أبناء جيله الذي قارب الخمسون عاماً .. البساتين المتناثرة على جانبي الطريق و مزارع الزيتون التي تشكل واحات خضراء كبيرة و البحر بزرقته الصافية قد خففا عنا هذا التعب و بددّا مني هذا القلق الذي ينتابني بين الحين و الآخر .. بدأت ارتاح بعض الشيء .. و روحي المنهكة تستعيد عافيتها شيئاً فشيئاً .. توقفت السيارة في إستراحه منتصف الطريق .. تناولنا وجبة سريعة كانت كافية لسد رمقنا من الجوع .. واصلنا المسير نحو مدينة الخمس .. نمر على المدن و القرى و البيوت المتناثرة على جانبي الطريق والتي تتوسط البساتين ومزارع الزيتون .. مناظر أقل ما يقال عنها إنها بدت لأول وهلة خلاّبة وجميلة للغاية بالرغم من أن الوقت هو نهاية الصيف .. اقتربنا الى بضعة كيلومترات من المدينة .. لم يعد منظر الشواهد التي أراها في مداخل المدن من صور و شعارات يقلقني كالسابق لكنه يقفز الى مخيلتي بكل النصائح و التحذيرات التي أسداها لي احمد المدرس في عمان .. لكنَّهُ قلق كامِن في أعماقي .. تكوَّر في ذاكرتي عبر سنين الخوف و القلق الذي زرعه في نفوسنا الديكتاتور .. و بالرغم ما يسببه لي هذا القلق من ألم و سلب لسعادة و متعة اللحظات التي اعيشها .. لكنَّ التعايش معه أصبحَ أمراً حتميّاً لا مفرَّ منهُ .. أوصلنا السائق الى مبنى إدارة التعليم و التكوين في الخمس و قد شارف الدوام الرسمي على الإنتهاء .. بقي السائق في انتظارنا الاّ أن ألحَحْنا عليه أن يذهب .. ودعنا بمودة ثم غادر المكان … ذهبنا الى احد معاهد مدينة الخمس ومعنا أحد الموظفين في الإدارة .. لنقضي ليلتنا هذه في المعهد في السكن المخصص للاساتذة و يتم تنسيبنا صباحاً على المعاهد المتوزعة في منطقة المرقب .. ليلة جميلة كانت مع الاساتذة الذين وجدناهم في السكن .. هم الآخرين نصحوا محذرين من عدم الخوض في السياسة .. جاء الصباح مسرعاً بخيوط الشمس تبدد الظلمة .. و تبشر بيوم جديد و بمجهول جديد و بقدر جديد .. إنتظرنا لساعات قبل أن يأتي الموظف الإداري الذي أتى بنا الى المعهد ليجلب لنا معه كتب تنسيبنا الى المعاهد في منطقة المرقب .. تم تنسينا نحن الستة على معاهد في أماكن عدة و متباعدة .. استلمت كتاب تنسيبي الى معهد حديث التأسيس في منطقة العلوص التي تنتصف الطريق بين مدينة الخمس و العاصمة طرابلس .. كان معي احد هؤلاء الزملاء الستة .. البقية ودعتهم على أمل ان التقي بهم حال استقراري .. اخذت سيارة إجرة لتقلنا الى مرآب السيارات العام في المدينة .. وصلت سيارات النقل الى العلوص ولم يتبقى لعدد الركاب كي يكتمل سوى إثنان .. دقائق قليلة حتى أنطلقت بنا سيارة الإجرة البيجو الى العلوص ..
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 1
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 2
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 3