يوم واحد لا يكفي بالمرّة للتعرف على مدينة كبيرة مثل الخمس .. الاّ أن جولة المساء في يوم أمس في شارعها الرئيسي .. الذي يتوسط المحال التجارية و البنايات والفنادق الكبيرة والمطاعم والمقاهي الجميلة المنتشرة على جانبيه تشي بفكرة أولية بأهمية هذه المدينة التجارية و السكانية و أنها ذات طابع حضاري حديث .. كونها تحوي على واحد من أهم الموانيء التجارية في ليبيا .. وكذلك على جامعة ناصر التي تعد من أهم الجامعات في الجماهيرية بعد جامعة الفاتح في طرابلس و قاريونس في بنغازي .. توقفنا قليلاً في الساحة الكبيرة التي تقع أمام المجمع الإداري للمدينة بلقاء جمعنا بمجموعة من العراقيين الذين وصلوا هنا للمدينة منذ مدة .. أحدهم وصل عبر السودان عن طريق ما يسمى ( طريق الموت ) الذي يجتاز الصحراء الكبرى التي تمتد على مساحات كبيرة بين البلدين عن طريق رحلة هي الأقرب الى مغامرة مميتة من أن تكون سفرة إعتيادية كالتي قطعناها بين مطار توزور و طرابلس لم تكلفنا سوى عناء و مشقة الطريق .. نصف ساعة تقريبا هو كل الوقت الذي قضيناه مع هولاء الأصدقاء الجدد قبل أن نودعهم ونكمل جولتنا في تفحص المكان بحثاً عن مطعم فاخر نتناول فيه وجبة دسمة تعوض كل ما فاتنا لثلاثة أيام من الوجبات السريعة التي لا تسد الرمق في أحسن الأحوال .. هدوء المكان و أناقته و أجواءه التي تبعث الراحة والسكينة في النفس .. أزاحا عنّا هذا التعب و هذا التفكير كله شيئاً فشيئاً .. تم تلبية طلباتنا جميعها .. راحت أحاديثنا تأخذ في طابعها عذوبة و ترافة وكما يبدو أنها بتأثير هذا الجو الذي أخذ يعلل الروح ببعض من هذا الترياق الذي بثه المكان في نفوسنا ..
إنطلقت بنا سيارة الإجرة مسرعة نحو منطقة العلوص .. لم تمضي ساعة من لحظة انطلاقنا حتى وصلنا العلوص .. التي تقع في منتصف الطريق الذي يصل الخمس بطرابلس تقريباً .. هممنا بالتوجه الى المعهد الذي تم تنسيبنا اليه .. دلنا أحدهم و كما يبدو انه على دراية بموضوع المعهد الذي تم إفتتاحه هذا العام في العلوص في نفس بناية ثانوية الهادي عرفة .. بناية كبيرة جدا و طرازها مصمم بإتقان واضح تصلح كأن تكون كلية .. قامت ببناءها شركة كورية .. إستقبلنا الأستاذ علي حسن الذي كلف بادارة المعهد اضافة الى للثانوية التي يديرها منذ سنين طويلة .. لغته الفصحى وحديثه الدافيء جدا و شخصيته المتواضعة التي تشي بالثقافة العالية و أخلاق يندر للمرء ان يصادف أحداً مثله بما يحمله هذا الرجل من أدب واخلاق ونفس كريمة .. أشار الى أحد الجالسين في مكتبه لأخذ الكتاب و تسجيل المباشرة في المعهد من تاريخ هذا اليوم 15/9/1997.. الاستاذ علي حسن يحمل شهادة عليا في اللغة الانكليزية و مهتم بالادب و الشعر و الثقافة .. يأسرك حديثه واسلوبه في الحوار و النقاش و الكم المعرفي و الثقافي الذي يكتنزه لساعات طوال دون أن تمل أو تشبع منه .. هذا ما كنت اشعر به عندما يأتي للجلوس معنا في المساء للتسامر و تبادل الحديث دائما طيلة فترة بقائي هنا .. صرت أشعر أن هناك فسحة من الحرية للنقاش السياسي و لو على نطاق ضيق جداً لكن يمكن معه ان أقرأ ما يدور حولي بشكل كافي ..
السكن المخصص للاساتذة منفصل لوحده .. صمم بشكل دقيق و جهز بآثاث حديثة .. حدائق مصممة بعناية تتوسطها ممرات تصل البنايات مع بعضها .. .. كان متذمراً من الأوضاع السياسية في البلد .. كان يحدثنا بتفاصيل هامة عن التحولات و وسائل القمع و البطش للنظام .. ثقته مطلقة كما يبدو بالعراقيين الذي يأتي في زيارتهم دائما ليتنفس معهم جور الانظمة البوليسية التي تحكم الناس بالنار و الحديد ..
المكتبة المركزية التابعة لبلدية العلوص قريبة جدا من مكان السكن .. كانت وجهتي لقضاء معظم أوقات الصباح .. فالدراسة لم تبدأ بعد .. استغربت هنا لوجود كتب كثيرة ممنوعة تحويها رفوف المكتبة .. كتاب فلسفتنا و كتاب أقتصادنا لمحمد باقر الصدر بنسخها الأصلية موجودة هنا صادفتني وانا اتفحص الرفوف المكتظة بإمهات الكتب المعروفة .. وحدها هذه الكتب كافية ان تذهب بك الى مقصلة الإعدام .. طلبتها من أمين المكتبة دون وجل أو خوف .. أيام كثيرة وان اطالع فصولها وحواشيها وانا احدث نفسي : مالذي يخشاه الديكتاتور من هذه الكتب … فهي تناقش افكار و نظريات و مفاهيم ليس إلاّ ..
مرت الأيام ساكنه و هادئه و على وتيرة واحدة للايام الأولى قبل أن تأتي عاصفة تهدد هذا الإطمئنان و الثقة التي باتت تتعزز بالمحيطين أكثر ..
في الساعة الرابعة من مساء الجمعة تقريبا أتى لزيارتنا شخصين و هما مسؤولين في المنطقة احدهما المسؤول الإداري ( رئيس اللجنة الشعبية للعلوص ) و الآخر هو المسؤول الحزبي للمنطقة ( مسؤول اللجان الثورية في العلوص ) .. و كانت الزيارة من باب الضيافة و التقدير عند سماعهم بقدومنا هنا لأول مرة .. قدمهم لنا استاذ عراقي قدم الى هنا قبل عامين على صلة وثيقه بهم كما يبدو من حرارة اللقاء .. تركنا وذهب الى موعد في ساحة كرة قدم قريبة من هنا .. موعد مباريات فريقهم مع فريق آخر من فرق شباب منطقة العلوص .. أجلستهم الى طاولة كبيرة تتوسط باحة السكن وجلسنا قبالتهم أنا و صديقي الذي جاء معي الى هنا قبل عدة أيام .. حديثهم مفعم بالمحبة والتعاطف ومشاعر عروبية خالصة حيال الأوضاع المأساوية الذي خلفها الحصار الدولي على العراق .. الأساتذة العراقيون الذي سبقونا الى هنا كانوا على قدر كبير من الاحترام والتقدير من الجميع هنا .. هذا ما لمسته من كلام هذا المسؤولين في سياق حديثهم .. وهذا شيء مفرح جدا .. استأذنت منهم لأضع أبريق الشاي على النار .. ورجعت جوار صديقي قبالتهم .. حديث عام تناول مواضيع شتى بيننا .. اوضاع العراق .. نقص الكادر في المعهد الذي يرجون استقبال الطلبة فيه لاول مرة هذا العام .. احاديث متفرقة هنا و هناك .. كل هذا يمر ومشاعر الود و الثقة هما من يطغيان على هذا اللقاء الاول بهم .. وهو على أية حال لقاء بروتوكولي وجب مراعاة إصوله وتجنب أي شيء يثير الإحراج و الإنزعاج و عدم الثقة فيه .. حلّ صمت على المكان وسط تجاذب هذه الاحاديث التي نحشر بعضها حشرا كي يمر الوقت .. فما كان لصديقي أن يوجه لهم سؤال لم يتوقعه أحد ولم يخطر على بال احد ان يسأله وسط كل هذا الحذر و هذا القلق وانعدام الثقة بين الناس .. سألهم وهم في لهفة للحديث معنا والتعرف علينا أكثر هذا السؤال الذي وقع علينا كالصاعقة وهو بلا شك ليس بسؤال فحسب بل كبركان هائج لا يمكن السيطرة على آثاره المدمرة وجهه لهم وهم في غمرة الاجواء هذا اللقاء الحميمي وهم يستقبلون ضيوفهم من بلد شقيق لهم يعيش أوضاع صعبه أضطرت أبناءه للسفر حيث المنافي البعيدة وحياة الغربة التي لم يعتادوها من قبل .. كان السؤال موجهاً لهم : ( كيف اختفى موسى الصدر هنا في ليبيا ) ؟!!! .. آه للقدر كله .. كيف إستطعت أن تخبأ هذه النهاية الحتمية لي دفعة واحدة .. دون ان أستشعر أي إشارة قبل ذلك .. مع كل هذا الحذر .. مع كل هذا الوصايا التي حفظتها من المدرس احمد .. ما الذي أفعله يا إلهي بهذه الصاعقة التي وجهها صديقي دون أن يحسب لهذا السؤال اي حساب وكأنه سؤال عادي ضمن نقاش عادي .. و كأن القدر قد ضمر لي حقداً على نجاتي من مواجهات الموت الحتمية العديدة التي افلتُ منها بمشيئة الله .. ما كان عليَّ الاّ أن أتصرف كي أغير وجهة هذه الصاعقة التي ستحرقنا دون رحمة .. الضيوف تسمرّوا دون أي حركة أو ينبسوا ولو بكلمة .. السؤال كان مفاجئاً لهم الى حد الغثيان .. وسط هذا الصمت و هذا الذهول .. ذهبت بإتجاه غرفة المطبخ التي تقع خلف الضيوف مباشرةً ودخلت المطبخ وخرجت ثم ناديت على صديقي على مسمع منهم : ارجو ان تأتي هنا لترى أبريق الشاي فلا خبرة لديَّ بعمل الشاي .. أتى مسرعاً وكأنني أنقذته تماما من حرج السؤال الخطير الذي وجهه لضيوف مسؤولين بالدولة أحدهم مسؤول الجهاز الحزبي للمنطقه وهو أعلى سلطة في البلد .. دخلنا سويةً للمطبخ ثم عاتبته بشدة على سؤاله المدمر هذا دون أن يسمع الضيوف ولربما سمعوا وارادوا أن يبينوا لنا إنهم لم يسمعوا السؤال بالأصل أو لم يفهموه بالمرة .. لكنهم تصرفوا على قدر من الحكمة و التعاطف و المراعاة و التقدير لمجموع العراقيين الموجودين هناك .. رجعت اليهم أحدثهم عن الاقسام الداخلية وتجربتي في الطبخ وعمل الشاي ظنا مني التمكن من إذابة هذا الجليد وكسرا لحالة السكون والوجوم التي سيطرت على ضيوفنا الذين بهتوا حال سماعهم هذا السؤال المدمر للجميع بما فيهم الضيوف في حال اخبارهم للسلطات .. اتى صديقي في الشاي لضيوفه و ادرك حينها حجم الحرج الذي تسبب بها للضيوف من سؤاله الذي لم يكن يدرك خطورته وعواقبه الوخيمة على كل الموجودين .. بعد ان اتمّوا ضيوفنا احتساءهم للشاي ..همّوا بمغادرة المكان وهم مثقلون بمرارة و حرج كبير من خطورة ان يسمع او يعرف أحد بما حدث وهم لم يقوموا بواجبهم بإتخاذ أي إجراء .. ودعتهم الى سيارتهم التيوتا بيك أب الحديثة وهي نفس السيارات التي يستقلها المسؤولين الحزبيين في العراق .. يالها من مصادفات و لربما هي الأدوات ذاتها .. غادروا المكان ولم اراهم بعد هذا اللقاء و بقيت هذه الحادثة مكتومة الى حين من الدهر خوفا من العواقب و بقي هذا السؤال في طي النسيان قسراً ..