الرئيسية / الادبية والثقافيه / سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 6

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 6

مضى أول إسبوع هنا في العلوص في رتابة تامة .. أذهب الى المكتبة كل صباح لإتناول كل مايقع في يدي من هذه الكتب التي تكتظ بها الرفوف بنهم .. اتوجه بعدما أقضي ساعات الصباح الى فرن الخبز الذي يطلق عليه محلياً ( الكوشة ) لأجلب منه ما نحتاجه لكل يوم من الخبز .. لم أواجه أية صعوبة في تدبر أمور معيشتي مع زملائي في السكن .. فالأمر بالنسبة لي سهل جداّ .. سنين الدراسة في جامعة البصرة و الخدمة العسكرية في بغداد بعيداً عن الأهل كانت كافية لأن تجعلني أن أعتمد على نفسي في كل شيء .. و كذلك على احتمال كل هذا البعد عن الأهل في حياتي الجديدة هذه .. بالرغم من عدم وجود وسيلة إتصال معهم سوى الرسائل الأعيادية عن طريق البريد .. و التي يستغرق وصولها اكثر من شهر في أحسن الأحوال .. خلاف مالي حول مستحقات الرسوم على المكاملات على ما أُشيع وقتها بين ليبيا والعراق أدى الى توقف الأتصالات بين البلدين .. فأصبحت واني منقطع عنهم بشكل كامل …
على حين غرّة و أنا جالس في المكتبة أطالع أحد الكتب .. أتى لي أحد الموظفين وقد بعثه المدير الاستاذ علي حسن يطلبني في مكتبه .. المدير يعرف انني اقضي كل الصباح هنا في مكتبة البلدية .. وصلت المكتب و قد أخبرني هذا الموظف بقدوم أستاذ جديد مصري الجنسية الى المعهد أثناء الطريق .. أستقبلني المدير كعادته دائما عندما ألتقيه بعبارات الود و المحبة والتشجيع ( أهلاً باش مهندس سلمان ) .. عرفني بالاستاذ يوسف عبدالدائم الذي نُسِّبَ هذا اليوم للمعهد .. عمره قارب الستون عاماً .. جلسنا نتبادل أطراف الحديث مع الضيف الذي قدم لنا تواً من مصر .. وبعدها طلب المدير مني أن أأخذه معي للسكن .. غادرنا المكتب سويةً باتجاه السكن القريب .. قدمته الى زملائي الثلاثة في السكن .. جميعهم عراقيّون .. رحبنا به و قمنا بضيافته على أتم وجه .. بدأ يتحدث عن غربته لأكثر من تسع سنين في السعودية و لخمس سنوات في عُمان .. رجل طيب و هاديء لحد الغموض بدا و لأول وهلة .. يستمع كثيراً دون أن يتكلم .. كمن يريد أن يكتشف محيطه بهدوء دونما ايّ تدخل منه .. إجابته يقتطعها عند أي سؤال له وكأنه يعيد صياغته كما يشتهي .. يسكن محافظة بني سويف في صعيد مصر .. سألته عن صديق لي من بني سويف في منطقة طنسا بني مالو .. لم يتعرّف عليه .. أزهر طالب في كلية الادارة والإقتصاد يأتي الى منطقتنا في العراق فترة العطلة الصيفية .. أخوه يحيى و بعض من جيرانه في طنسا بني مالوا يعملون في البناء لسنوات عدة في منطقتنا .. أزهر افصح لي أنه مرتبط بجماعة الإخوان المسلمين .. أخوه يحيى متذمر من هذا الارتباط .. بسبب حملات الاعتقلات والمداهمات التي تقوم بها السلطات لأعضاء هذه الجماعة .. الالتزام الديني والحماس الثوري هما قاسم علاقة الصداقة التي ربطتني به عام 1984 .. يحيى يطلب منه ان يتخلى عن هذا الارتباط و يبتعد عن هذه الجماعة من أجل مستقبله .. كنت اتدخل دائما لإصلاح العلاقة المتدهورة بينهما دون جدوى لإصرار أزهر على مواصلة هذا الإرتباط .. اخذت صورة أزهر الشاب المتدين والمتحمس لجماعة الأخوان تقفز الى ذهني كلما رأيت أستاذ يوسف المتدين و المتحمس أن يقوم بدور الداعية في العلوص .. يقضي معظم أوقاته في المساء جالساً في حديقة السكن ويقوم بتجويد القرآن بصوت عالي .. سألناه لم تجود القرآن بصوت عالي في الحديقة .. برَرَّ ذلك أنه يريد أن يُحسِّن من صوته .. لم تمر الاّ أيام قليلة حتى اعتلى المنبر في خطبة الجمعة و يأم الناس في الصلاة في جامع العلوص .. إذ تفاجئنا بالأمر ونحن ندخل لصلاة الجمعة في جامع العلوص .. و كل هذا يحدث بظرف خمسة أيام .. إستمر بخطبة الجمعة للاكثر من ثلاثة أسابيع .. حتى توقف منها فجأة .. أسرني احد الزملاء والذي تربطه علاقة صداقة حميمة بمسؤول اللجان الثورية في العلوص بأن الاستاذ يوسف قد منع من خطبة الجمعة لنشاطاته وتحركاته المريبة خصوصا بين أوساط المتدينين الذين يرتادون الجامع في استمرار .. وهو أمر كنا نتوقعه قبل هذا الوقت .. كل تصرفاته الغريبة و حركته السريعه في أخذ دور الداعية وخطيب الجامع كان واضحا على الأقل مننا ونحن نسكن معه ونتبادل شتى الاحاديث معه … كل شيء بدا واضحاً و تكشف كل شيء .. أيام معدودة حتى أعيد تنسينا لمعاهد أخرى .. استاذ يوسف قد أعيد تنسيبه لمعهد في مدينة الخمس .. وانا أعيد تنسيبي الى معهد في منطقة سيدي عمير ..للشمال من العلوص