الرئيسية / الادبية والثقافيه / سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 9

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 9

أجواء خريفية منعشة تفتح شهية الصباح بنسيم البحر البارد .. شحنة أرتياح قوية إجتاحت روحي و أخذت تشع البهجة في نفسي وتبعث على الأمل والتفاؤل .. الهدوء يخيم على المكان سوى من أصوات و زقزقة العصافير التي تتقافز بين اشجار الزيتون المتناثرة حول المكان .. بدأت أصوات السيارت التي تأتي بالطلّاب من المناطق البعيدة تكسر طوق كل هذا السكون الذي اطبق على المكان .. بدأ الطلاب و الاساتذة يتوافدون على المكان بتحاياهم الصباحية التي تشي بمشاعر المحبة و الاحترام .. هكذا بدا اليوم بهيجا و مشجعاً .. جلسنا جميعاً في الإدارة نتباحث في شؤون كثيرة تخص سير العمل .. الكل هنا يسأل عن احوال العراق بحماس عروبي و عاطفة كبيرة مع أوضاع الحصار التي نخرت الناس نخراً .. إندهشوا كثيراً عندما قلت لهم إن راتب الموظف في العراق لا يزيد عن عشرة دنانير ليبية وقتها .. و إن بدا الحصار هنا مؤثراً على الأوضاع بصورة ملحوظة .. الاّ أنه لا يصل الى قساوة و بشاعة الحصار هناك أي في العراق .. حتى جاء وقت محاضرتي في الجدول .. رافقني أحد الاساتذة ليقوم بتقديمي للطلبة .. عملي محاضراً في معهد الناصرية التقني للعام السابق لزيادة دخلي إضافة لعملي في دائرة نقل الطاقة الكهربائية كان قد سهّل عليَّ المهمة .. لغتي التوفيقية البسيطة كانت كافية أن يفهم الطلاّب من خلالها كل ما أقوم بشرحه من مواد بدون أي صعوبة .. كل شيء يسير بهدوء و سلاسة تامة .. بعد عشرة أيام من يوم قدومي للمعهد قاموا الإساتذة الليبيين بضيافتنا تكريماً واحتفاءاً بقدومنا عليهم .. كل هذا تم الإعداد اليه و تهيأته بينهم دون أن نعلم الاّ يوم دعوتنا على مأدبة عشاء على البحر و التي يطلقون عليها محلياً ( السهرية ) .. انطلقت السيارات بنا في الساعة الرابعة مساءاً الى البحر .. الكادر التدريسي كله متوزعين على السيارات الخاصة للأساتذة .. المسافة لا تبعد أكثر من ثلاثة كيلومترات .. وصلنا الى جانب غابة كثيفة تطل على البحر .. غرف كثيرة تنتشر على ساحل البحر بمسافات تقترب و تبتعد عن بعضها .. تستخدم للإستجمام و السهريات .. و صلنا الى أحد هذه الغرف و هي لأقارب زميل معنا .. غرفة كبيرة فيها باب واسع ونافذة يطلاّن على البحر .. مضاف اليها مجموعة صحيّات و مطبخ صغير .. لم اقف وجه الى وجه مع البحر في حياتي كلها الاّ تلك اللحظة التي اقف بها الآن .. أتأمل هذه النهايات البعيدة جداً .. تتوارى عن العين بعد أن تنطبق مع الأفق البعيد جدا .. أنه مخيف جداً .. هكذا بدا لي لأول وهلة .. ليس لأَنني أخاف الغرق .. فإنني أجيد السباحة منذ الصغر .. لكنَّ صوته الهادر وأمواجه العالية المتكسرة على الشاطئ ونهاياته البعيدة توحي بإنه شيء مرعب .. هذا البحر المسكون بكل تلك الحكايات التي عرفتها عن البحارة و قصصهم العجيبة .. قد يبتلع الأرض في لفظة واحدة .. إلاّ إن أقتربت منه أكثر و أخذت اقف في نهاية أمواجه المتكسرة على الشاطيء واتنفس عميقاً في ذلك المساء الجميل في كل تفاصيله التي تشرح الصدر و تزيل الغبرة عنه .. الخروف الذي أتوا به للوليمة التي أقاموها على شرفنا أفلت بسرعة بين أشجار الغابة التي لا نبعد عنها سوى أمتار .. لحق به بعض الزملاء منطلقين وراءه بقوة .. أجهدهم في الركض خلفه حتى أمسكوا به .. كل هذا يجري ونحن منتشرين على الشاطيء .. وهناك من يقوم بالتهيأة للوليمة و البعض يجلسون في الغرفة يتبادلون الاحاديث .. أتوا بالخروف وشدّوا وثاقه بشكل جيد .. وبعد نصف ساعة تقريباً قام أحد الزملاء بذبحه وآخر بسلخه وأنا جنباً الى جنب معهم .. أراقبهم في طريقتهم لذبح و سلخ الخروف .. فهي مشابهة الى ما نفعله أو قد تكون هي الطريقة ذاتها تماماً .. سألتهم : كيف تطبخون هذا الخروف ؟.. ماهي الطريقة ؟ .. أجابوني : سنعمل منه ( البرديم ) ..
ماهو البرديم لا أعرف هذه الأكلة ولم أسمع بها في حياتي .. أشاروا لي : تعال معنا لتعرف ماهو البرديم .. ذهبت معهم وأنا أحدثهم عن ( المفطّح ) و هي الطريقة التي إعتدنا عليها في العراق بتقطيع الخروف أو الشاة الى ثلاثة أجزاء أو أربعة أجزاء بالكثير .. احدثهم عن هذه الطريقة وهم مندهشين لذلك .. قاموا بتقطيعه الى قطع صغيرة تزن الواحدة منها قرابة النصف كيلو .. غسلوها بالماء بشكل جيد .. أضافوا عليها الملح والبهارات .. و وضوعها في أحد الأواني .. ثم ذهبت معهم الى المكان الذي سيعملون فيه ( البرديم ) .. وهو عبارة عن نصف برميل مفتوح ..قد وضع في حفرة وثبتّ فيها بشكل جيد عن طريق رمل الشاطيءالذي يحيط به .. البعض منهم جلب غصن كبير جداً لشجرة اليوكالبتوز من الغابة ..قم أحد الزملاء بإشعاله وسط البرميل المفتوح من الأعلى .. بقي مشتعلاً قرابة الساعة ..إلاّ أن تحول الى جمر .. جاءوا بقطع اللحم و وضعوها على الجمر .. ثم أغلقوا فوهة البرميل بغطاءه الحديدي .. ثم غطوه بقطعة من الكارتون الكبير بحيث غطت كل فوهة البرميل .. ثمّ أهالوا الرمل فوقه .. أكثر من ثلاثين سنتيميتر أرتفاع طبقة الرمل فوق فوهة البرميل ..كافية لتأمين العزل الحراري الازم للحفاظ على حرارة الجمر وضغط الهواء كي تقومان بتحميص اللحم .. تركوه دون تدخل قرابة الساعة .. قمنا بعدها بإزالة الرمل .. و بعدها القطعة الكارتونية .. ومن ثم الغطاء الحديدي .. وبعدها قام أحد الزملاء بإخراج قطع اللحم التي بدت محمصة بكاملها .. ووضعها في طنجرة .. رجعنا جميعنا الى الغرفة .. حيث تم تهيأة المائدة بشكل كامل .. ليتم توزيع القطع على الحاضرين وتناولها مع الخبز و السلطة و المشروبات الغازية .. أستمرت الاحاديث الجميلة والنقاشات والحوارات حول عدة مواضيع .. تضمنت العادات و التقاليد فنحن الاثنين لا نعرف عن بعضنا البعض .. هذا وقت مناسب لأن نتعرف على بعضنا البعض .. بهذا الجو الحميمي والودي الذي جمعتنا به وليمة ( البرديم ) التي إقيمت على شرفنا .. هذه الوجبة لا تعمل في كل وقت أو سهرية .. تعمل فقط للضيوف للذين من هم على قدر كبير من التقدير والاحترام عند المضيّف .. البعض قد راح يتمشى على الشاطيء والبعض يلعب ( الشكبّة ) وهي احد لعب الورق للتسلية .. و البعض يتسامر بأحاديث و نكات تبدد كل هذا الحزن الذي هيمنَ على الفؤاد .. قبل منتصف الليل تم طهي ما تبقى من الخروف .. ليتم إعداد أطباق شهية من ( السبيكاتي ) كانت لذيذة جدا .. طريقة إعدادها كما يبدو بإحترافية عالية .. انتصف الليل .. أتفق الجميع على العودة .. والبحر ما زال هائجا ً .. صوت امواجه العاتية التي تتكسر على بعضها البعض يهدر هدراً .. وفي كل هذا الظلام الدامس الذي يلفُّ بالمكان .. لابد من الذي تمرّس على ركوب البحر .. هو وحده من لا يشعر بكل هذا الذي يبعثه في عزفه المخيف .. غادرنا البحر والكل يشعر بالسعادة والراحة بعد هذه الليلة المخملية بكل تفاصيلها الحالمة ..