يبدو المكان و كأنه موحشاً لا روح فيه .. منقطع تماما عن الناس .. سكونه مطبق و هدوءه يثقل الروح بتفكير عميق لا يحث في النفس على أي أمل بإنفراج قريب قد يحدث .. هذا ما كنت أفكر به و لحظة شعوري و انا اواصل قرائتي لكتاب مذكرات ( نورم الدب ) عن حرب الخليج في هذا المساء الكئيب بالخيبات والخسارات الكبيرة التي تكبدها العراقيون جرّاء مغامرة عابثة للديكتاور المتعطش للدماء و نزع للارواح من اجسادها و التي تفاجئني بها مذكرات هذا الدب .. حيث أجلس على كرسي بلاستيكي ابيض الى الأمام من احد الصفوف الجاهزة التي انتقلنا اليها من مدة نحن العراقيون الثلاثة لنسكن فيها .. الاستاذ عبدالله يجلس قبالتي على كرسيّه ينفث سكائره واحده تلو الأخرى دون إنقطاع يحدثني عن مشاريعه الخاسرة التي اقامها بعد رجوعه من الكويت و هي كثيرة .. آخرها إنه قد إشترى زورق كبير والذي يسمى محليا ( لنج ) مع مجموعة من الصيادين في مدينة الفاو المطلة على الخليج العربي و التي تقع جنوب مدينة البصرة قرابة المائة كيلو متر .. ورحلات الصيد التي يقضي بها أيام عديدة في مياه الخليج .. الحياة الصعبة و مخاطر رحلات الصيد التي تعرض لها و قسوة الحصار التي استتزفت كل روحه وكل أيامه كانت بائنة .. و هو يتحدث بأسى و أنفاسه تتكسر داخل أعماقه و هو يتنهد حزنه و معاناته عندما يصوّر لي هذه المشاهد المأساوية التي عاشها بكل آلامها وتفاصيلها المرّة .. لا نافذة نطل بها على هذا العالم سوى هذا ( الراديو المسجل ) وإذاعة صوت العراق الحر التي نتلقف منها اخبار الوطن .. و نشاط المعارضة الذي لا يعدو الاّ بصيص أمل بسيط في قبالة نظام وحشي ديكتاتوري .. لا يمكن معه التصديق بأن هذه المعارضة قادرة على إحداث تغيير فعلي على الأرض .. احمد الجلبي و اياد علاوي و جواد الماكي و بيان جبر هم اكثر الاشخاص الذين تلتقيهم الفنانة غزوة الخالدي في هذه الاذاعة للتحدث عن الاوضاع العامة ونشاطات المعارضة .. تعزّز هذه الاخبار بي الامل المنشود في تغيير النظام .. هذا هو حلمنا الكبير الذي نحيا به و نعيش من أجله .. ان تشرق شمس الحرية و الكرامة على ربوع الوطن من جديد .. و تعود الطيور المهاجرة الى أصقاع الأرض الى أعشاشها .. بعد أن ترحل غربان الشر و خفافيش الظلام منها .. هذا الحلم كنت أعيشه لوحدي هنا في هذا المكان .. لا أستطيح أن أتحدث به .. كي لا يفسد الود بيننا و نحن نعيش في نفس المكان و ننام في أسرة متجاورة بعضها البعض .. كم هي الحياة قاسية عندما تضع الانسان في هكذا موضع .. إنك لا تستطيع أن تتحدّث حتى عن حلمك هذا الذي يكبر بداخلك كل هذه السنين يوما بعد يوم .. حقاً إنها الأقدار اللعينة الغير مرتجاه و التي لم أتوقع ان تصادفني لحظة خروجي من الحدود .. بدا هذا المساء قاتماً و هو يذوي الروح و يفتها فتاً في كل هذا الذي أراه و أسمعه و أقرأه و أحس به .. فلا مناصَّ من أن يتكوَّر الحزن و الهم في داخلك و أن ترتسم علائمه على وجهك مهما حاولت إخفاءها ..
وتستمر بك ساعات المساء والغروب و انت على هذا الحال دون ان يحدث شيء ليكسر هذا الجمود و يذيب هذا الجليد الذي يسكن روحك هماً و غماً .. هكذا تمرُّ بي الأيام بطيئة و ثقيلة و كئيبة و كأنها دهور .. سوى من ساعات العمل في الصباح و ساعتين او أكثر نقضيها مع الحاج سالم أبو زيد في ( مربوعته ) الى هذا الوقت الذي أنا فيه الآن ..
بدأنا بالتعرف على عائلة البوزيد جميعهم و الذين يسكنون متقاربين الى بعضهم البعض في ارضهم و قبالة بساتينهم المتراصفة مع بعضها البعض .. المهندس الحاج محمد العمار و أخيه الحاج الهادي و نوري ابو زيد و الاستاذ بنور ابو زيد و الاستاذ جمعة ابو زيد و الاخ محمود ابو زيد .. نلبي دعواتهم تباعاً لإستضافتنا و التعرف علينا و التخفيف عناّ ونحن نسكن بالقرب منهم على مسافة مائتي متر تقريبا ً .. هذا العائلة تشعرك و كأنك واحداً منها بكل الأمان والدفيء و الطيبة والانسانية الذي يتدفق منهم بصدق و نقاء و هم يستقبلوننا مرحبين بمشاعر المحبة والود و الاحترام و التقدير .. مكتبة الحاج محمد العمّار الكبيرة قد وقع نظري عليها ما إن دخلنا صالة الإستقبال المجاورة الى بيته .. ثقافته و شخصيته وحديثه الدافيء يجعلك تدرك بعمق التجربة التي خاض غمارها في الحياة و قصة نجاح سعى اليها بكل جد و دأب و كدح و صبر .. ما إن تتهيأ الفرصة لزيارته حتى إن تمر الساعات معه وكإنها لحظات عابرة من الحوارات و النقاشات التي أفيد منها كثيراً .. فتح مكتبته لنا نستعير منها ما نشاء و بأي وقت نريد .. كانت فرصة مناسبة أن نتزود منها و من كتبها الكثيرة والمتنوعة من ادب وتاريخ و دين و لغة و نحن نعاني من ثقل الوقت ونحن نعيش هنا بعد ساعات العمل .. و بدأت استعير الكتاب واحداً تلو الآخر بين الحين و الحين من اللحظة التي أمسكت فيها بكتاب تاريخ الادب العربي للدكتور شوقي ضيف ..
إقترحت على الاستاذ عبدالله إن نذهب الى طرابلس الجمعة القادمة للترويح عن أنفسنا .. فلم تعد الروح المنهكة بكل هذا الهم الذي يأتيها من كل صوب و يغرف بها و ينهشها نهشا تقاوم كل هذا المكان الساكن حد الجمود .. بادر مرحباً فهو الآخر تتقذف به الافكار و يتخطف به الخوف والقلق على عائلته التي بقيت في عمان إذ لم يكن معه ما يكفي لإصطحابها معه الى هنا و التي سيذهب اليها في العطلة الصيفية بعدة أشهر كثيرة .. أيقظني مبكراً و هو ما نفعله دائما عندما نريد ان نذهب الى مدينة طرابلس .. موجة فرح غامر تدفقت اليّ ما إن فتّحت عيناي أهم بالتهيأ للذهاب الى العاصمة ..الاستاذ عبدالله قد احضر الفطور على عادته كل يوم .. تناولناه معا ثم تهيئنا للذهاب هناك .. طلبت من سائق سيارة الاجرة أن يضعني قبالة الساحة الخضراء و هي الميدان الرئيسي في طرابلس .. بعد ان وقف السائق قبالة الساحة الخضراء .. تهيئنا للنزول من السيارة و صرنا نتمشى بإتجاه الساحة الخضراء .. ساحة كبيرة و واسعة يقع بالجوار منها السرايا الحمراء والتي تنتهي الى شوارع طرابلس الكبيرة ..
تطل على شارع الشط من جهة الشمال الذي يحيط بطرابلس من جهة البحر ..
قضينا اكثر من ساعة و نحن نتمشى في الحدائق التي تحيط بهذه الساحة و نسائم خريفية باردة تلف المكان لتنعش القلب بالهواء النقي قبل ان نواصل المسير نحو شارع ( محمد المقريف ) ..
شارع جميل تنتظم فيه المحال التجارية بمبانيها الانيقة و اشجاره التي تظلل مسيرنا ونحن نستمتع بالمشهد الذي شدّنا اليه بقوة .. نلمح من بعيد مقهى أنيق مفتوح في ساحة صغيرة .. جلسنا لاكثر من ساعة فيه لنشرب قهوته المميزة بالطعم و النكهة التي تشد المذاق للإزدياد منها .. قبل ان نعود ادراجنا صوب شارع عمر المختار و المقهى الذي يتواجد فيه أصدقائنا العراقيين .. وجدت احد أصدقائي هناك فقد لمحته من بعد .. جلسنا معاً و الاستاذ عبدالله الى قبالتنا ينفث سيكارته بإرتياح تام و هو يتبادل معنا أطراف الحديث .. فليس هناك من اخبار الوطن التي تصل العراقيين هنا ما يسرُّ الخاطر .. القمع ما زال هو الطريقة الوحيدة النظام التي يسكت بها خصومه .. هذا النظام الذي بدا باهتاً .. كقربة متعفنة .. لا ينفع معها كل شيء سوى التخلص منها بسرعة .. ذهبنا معاً الى أحد المطاعم القريبة بعد ان أحسسنا بالجوع والنهار قد انتصف .. ودعته على أمل أن ألتقيه مجدداً هنا في هذا المقهى بعد أن تناولنا طعام الغداء معا .. عدنا للقره بوللي لنقضي فيها اكثر من ساعة لشراء ما نحتاج اليه .. تمشينا الى مدخل مدينة القره بوللي من جهة سيدي عمير و هو مفترق لطريقين .. احدهما يذهب الى سيدي عمير .. إعتدنا أن نقف هنا في هذا المكان و يأتي من هو ذاهب الى سيدي عمير ليقوم بإيصالنا بدون أي مقابل .. هكذا هي الناس هنا .. لا يتعدّوك و انت واقف على قارعة الطريق حتى يقفوا اليك بدون ان يعرفوك من قبل ..
تمضي اللحظات و تمضي الساعات و الايام و السنين بدون ان تتوقف في انتظار احد بكل سننها و متغيراتها التي تفاجيء الجميع دائما
بكل ما هو جديد و صادم ..
#الصورة للساحة الخضراء وهي اكبر ميدان في طرابلس و تسمى ساحة الشهداء حاليا ..


سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 1
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 2
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 3
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 4
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 5
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 6
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 7
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 8
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 9
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 10
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 11