الرئيسية / الادبية والثقافيه / سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 15

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 15

ثمة شعور قوي بالفرح تخلل نفسي في هذا الصباح الفيروزي الغريد بإلحان الأمل و البهجة و التفاؤل التي تقتلع هواجس القلق و سحب الهموم التي تجتاح روحي في الليل من الاعماق .. و زقزقرة العصافير و رفرفة أجنحتها وهي تتقافز تحت قطرات المطر قبل ان يبدأ العمل في هذه اللحظة التي أقف بها الآن عند باب الكرفان الذي نسكن فيه .. قطع من الغيوم الكثيفة قادمة من البحر تغطي المكان .. تشير الى أن هطول للامطار قد يحدث في أي لحظة .. بدأ الطلاب و الاساتذة يتوافدون على المكان .. من يلمحني منهم من بعيد يلوّح لي بيده بتحايا المحبة و الاحترام التي تفتح النفس و تذيل القلب لهم حنواً و تقدير .. خطوت مسرعاً نحو الإدارة تحاشيا لقطرات المطر التي بدأت تتسارع شيئاً فشيئاً .. وجدت المدير الاستاذ محمد علي ميلاد و الاساتذة متجمعين من حوله .. و هم يحتسون الشاي الذي عمل بعناية و اهتمام و هذا ما عرفته من اول رشفة تذوقتها بعد ان القيت عليهم التحية و جلست بينهم ماسكاً كوب الشاي بيدي وقد أخذ مزاجي يصفوا كحلم جميل .. المدير إنسان طيب و نقي جداً يحاول إرضاء الجميع دائماً .. الأمر الذي جعل من جميع الاساتذة متعاونون معه و أن يسير العمل في إنسيابية و هدوء تام .. طلبت منه أن ينقل محاضراتي في جدول يوم الخميس الى بقية الأيام .. كي اتمكن من السفر الى إصدقائي في المدن و المناطق القريبة على طرابلس .. للترويح من عبأ المحاضرات الكثيرة و وحشة هذا المكان المنقطع .. فبادر موافقاً و مقدراً للجهد الذي أبذله في تدريس كل مواد الاختصاص لطلاب وطالبات المعهد والثانوية الهندسية للكهرباء .. هذه الثقة الكبيرة و الموقف النبيل جعلتني أمام مسؤولية أخرى لبذل المزيد في العمل .. و جعلت المهمة أسهل في كل هذه الأجواء التي تسودها الثقة و المحبة و التعاون .. ما ان إنتهت المحاضرة الأولى حتى أن المطر قد بدأ يهطل بسرعة دونما توقف .. بقيت متسمراً في مكاني أنظر من بعيد .. لا إستطيع التخطي الى الكرفان الذي توجد فيه منضدة تنس الطاولة .. لأقضي فترة الإستراحة مع زملائي نمارس هوايتنا في لعبة تنس الطاولة .. إستاذ الرياضة مسعود العوام واستاذ اللغة العربية مصطفى الكوت و الأستاذ مصباح الحفيان و الاستاذ جمعة أبو زيد وأغلب الأساتذة من عراقيين ومصريين نقضي هنا أغلب اوقات الإستراحة في ممارسة هذه اللعبة التي شغفنا بها جميعاً .. دنى مني أحد الطلاب و بيده مظلة من المطر .. تخطينا معا تحت هذا السيل المنهمر .. وكأنه يغرف من البحر ليندلق علينا كالشلّال .. أوصلني للكرفان و غادر مسرعاً بإتجاه زملاءه .. المظلة كما يبدو لم تنجيني من البلل لملابسي بالكامل .. جلسنا نتحدث مع بعضنا و إثنين من زملائنا يتبارون في حماس .. فقد أصبحنا الآن أصدقاء بعد شهرين من وصولنا لهذا المكان .. الاستاذ عبدالسلام العوام منشغل في الادارة فهو معاون المدير و يتابع بحرص شديد سير العمل هنا و الاستاذ بنور ابو زيد هو الآخر لا يهوى هذه اللعبة .. اللحظات اقضيها لأروض كل هذا الشجن الذي يحتشي قلبي ..والذي ينبض بالوجد والحنين لمن تقطعت بهم عنّا السبل .. وإن كانت قدرتي على المصارحة مع نفسي .. مع كل هذا الإلتباس الحاصل في ما يحدث لي مع الاستاذ عبدالله .. يتهوج معه صراخي و فطنتي ولكنه يتعثر بريح الأمزجة .. فأترك روحي هائمة في حبال الشك و القلق والغثيان .. أترقب بزوغ فجر جديد في حقول أحلامنا .. هذا كل الذي تنزفه روحي و تكتويه إضلعي بهذا العبث من الأفكار التي تتكسر عليها كل أمواج آمالي و نشوة هذا الصباح البهيج ..
أحرص بشدة على أن لا يعرف أحد هنا أني كنت معتقلاً في أجهزة النظام كما كنت أفعل هكذا و بحذر شديد في العراق .. خوفا من التبعات و ما يتسببه للآخرين من قلق و خوف أو أي شبهة يعتقدونها .. بالرغم من الود والثقة العالية التي نمت بسرعة كبيرة في هذه الفترة الوجيزة .. لكن هذا لا يثنيني من أنقل للناس هنا ما عبثت به مغامرات الدكتاتور و القمع الذي يمارسه ضد الشعب .. لأنني لا أتقبل يوماً من إنني سأكون ضمن القطيع .. فنشيج الوطن مرعب حد الجزع .. وأمزجة الشباب شاحبة فيه حد الضياع .. و الجوع أخذ ينخر بالناس نخراً .. فالخنوع و الصمت الذليل جعل الناس تدس رؤوسها عن ما يقترفه النظام من جرائم و فظائع يومية اتجاه الشعب ..
انتهت الاستراحة وتوقفت معها احدايثنا و سكنت لحظات هذا التفكير الذي يذوي الروح و يرهق الجسد و انتهى الدوام لهذا اليوم وانا أهم للذهاب الى القره بوللي مع الاستاذ عبدالله و برفقة احد الاساتذة .. وصلنا بعد نصف ساعة معاً الى بريد القره بوللي .. مجموعة من الرسائل لنا نحن الثلاثة .. أربعة رسائل لي أنا وحدي و أخرى للأستاذ عبدالله .. رسالتين من رفيق دربي فاهم و واحدة من أهلي والأخيرة من أحد أصدقائي الذي وصل توا الى أوربا في الدنيمارك برحلة محفوفة بالمخاطر والصعوبات .. فاهم يعمل في جهاز المخابرات العراقية عمله كمترجم فوري و بإحترافية عالية لللغة الأنكليزية جعله احد الثلاثة الذين ينتدبهم مركز التنصت للمخابرات في أزمات النظام مع بعثة الأمم المتحدة للتفتيش والذين يواصلون عملهم ليل نهار في ترجمة الاخبار والتقارير لشبكات الاعلام الرئيسة في العالم .. لم أشأ أن أسأله يوم عما يحدث هناك في عمله .. أدرك جيدا حساسية هذه الأسئلة كونه يتنقل في اكثر المواقع أهمية و حساسية للمعلومات .. اتركه يتحدث لوحده دون ان افكر ان انتزع منه معلومه او اضايقه في فضول .. يكتب لي بحرية و وضوح عما يجول بخاطره .. فالرسائل التي يبعثها لي لا تخضع للتفتيش .. فهو يضعها في اكياس البريد الخاصة التي تبعث الى عمّان يومياً مع الحافلات الحكومية ومن هناك الى كل دول العالم .. فقد عمل هنا فترة في مكتب بريد بغداد الرئيسي في الصالحية والذي زرته فيه مرات عديدة .. كانت مهمته تخص البريد المكتوب في اللغة الانكليزية سواء مجلات او صحف او نشرات .. رسائلة كالعادة تحمل روح الفكاهة و امثال شعبية يبعثها باللغة الانكلزية ..
عدنا الى سيدي عمير بعد شراء الخبز و ما كنّا نحتاج اليه وقتها .. وجدنا إن المطر قد توقف بالكامل .. الاشجار بدت كقناديل كبيرة بعد إن غسلها المطر و إرتدَّ لناظري منها أشعة الشمس التي تخللت كل هذا الاجواء الصافية .. فقد لملم المطر كل هذا التراب .. وإنفضَ عباءة الإنكسار في روحي .. ليدع الريح هي من ترسم خطاي على نافذة الأمل .. ويسدل الستار على حكايات قد دثرتها المسافات .. بين هذه الاشجار و العصافير التي تتقاسم معي كل هذا العناد ..و كل هذا الحلم الباذخ ..

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 1

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 2

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 3

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 4

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 5

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 6

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 7

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 8

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 9

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 10

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 11

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 12

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 13

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 14