في هذا المساء الساكن الا من أصوات التلاميذ الصغار و هي تتعالى في المكان .. يتقافزون كالعصافير الفرحة بإنطلاقها في الفضاء .. كركراتهم و هم منتشيين كإنها زقزقات غريّدة لهذه البراعم الندية .. و هم ينتشرون في باحة المدرسة وما حولها في الإستراحة التي تفصل ما بين دروسهم .. فالبناية يشغلها تلاميذ المرحلة الإبتدائية ( الإساسي ) في المساء .. هذا و أنا أفتح باب الكرفان للطارق الذي أقف قبالته الآن .. الاستاذ الحاج سالم أبو زيد محيياً بوجه المبتسم دائما .. حييته كعادتي بإحترام و وقار و دعوته ان يجلس قليلا في الداخل كالعادة عندما يأتي لتفقد أحوالنا أثناء تواجده في دوامه المسائي .. اليوم هو أول أيام شهر رمضان الذي حلَّ بعد رجوعنا من الخمس بيومين .. جلست قبالته علي كرسيي و أنا أتكأ على طاولة بيضاء دائرية الشكل مصنوعة من البلاستك منصتاً له .. : أنتم مدعوون للأفطار في بيتي هذا اليوم و بقية الإيام في شهر رمضان .. وأردف قائلا : كثير من زملائكم و إصدقائكم هنا في نيتهم ان يدعوكم على الإفطار في بيوتهم .. و في أي يوم يكون ليس لديكم فيه دعوة .. سأبعث إبني علي في السيارة ليأتي بكم الى البيت لنفطر معاً .. علي هذا من طينته تماماً .. هذا الطين الذي بقي على طهارته منذ إن نفخ فيه الإله من روحه لحظة الخلق و الحياة الأولى .. مشاعر من الخجل ممزوجة بالإرتياح و الطمئنينة تخالج نفسي .. و إنا أشكره عرفاناً و تقديراً لكل هذا الكرم و كل هذا الإغداق بالعطف .. نهض مودعاً نحو أحد الصفوف بعد إن انتهت الاستراحة .. رجعت الى سريري و أنا اتذكّر ماحدّثني به الاستاذ احمد الذي يدرس في منطقة أوجلة وصديقي حسام في العلوص عن عادات الليبيّين في رمضان .. في إنهم يحرصون على أن يفطرّوك في بيوتهم .. ودافع ذلك يرجع الى عاداتهم في إكرام و إقراء الضيوف و تعاطفهم مع العراقيين و كذلك فإنها سنة نبوية يحرصون على نيل ثوابها .. يبدو إن قراءتهم للواقع هنا دقيقة .. فكل الذي اراه و إصادفه منطبق تماما على تصوراتهم وانطباعتهم على الحياة هنا لغاية هذه اللحظة التي افكر فيها بدعوة الحاج سالم ابو زيد لنا قبل بضعة دقائق .. طبيعة النظام الشمولية و طيبة الناس وعاداتهم وتقاليدهم التي تشبه الى حد بعيد لعاداتنا وتقاليدنا .. مشاعرهم القومية والملتهبة حماس وطني وثوري هي الأخرى قريبة من مشاعر العراقيين القومية والوطنية والثورية .. الحصار هنا و إن بدا أقل شراسة من الحصار في العراق لكن آثاره واضحة و بدأ تأثيره يتصاعد على كافة المجالات في الحياة يوما بعد يوم .. فكل شيء في هذه المحطات يحكي قصته للمسافرين و هو بإنتظار من يأتي ليوثق هذه الحكايات هنا بصدق للتأريخ .. ليعيد لي شريط التسجيل في لحظة واحدة .. وإنا أتحرك في هذا المكان المنقطع كراهب دير .. أقضي ما تبقى من هذا اليوم صائماً و متأملاً هذا الكون .. والنبوءات و التوقعات تقفز الى رأسي ببنات الأفكار .. أنه ستأتي اللحظة التي يمتلك بها الشعب زمام الامور بنفسه .. في اللحظة التي كنت استمع بها الى إذاعة صوت العراق الحر و هي تنقل لنا اخبار الوطن من هناك و نشاطات المعارضة في الجنوب و كردستان ..
بالرغم من عدم قناعتي ان هذا النشاطات لا تحقق أي شي على ارض الواقع .. الإّ أنها تشع ببعض الأمل في داخلي مع بعض ما توفره نبوءاتي و توقعاتي العابثة هذه .. و التي لا أجد سواها عوناً لي في أن ينتشي قلبي في لحظات التفكير العابث هذه على الأقل .. و انا في هذه الزاوية البعيدة عن العالم و عن الوطن و عن صوت أمي و قد انقطعت من كل جذوري تماماً .. سوى من هذه الدعوات الكريمة و المواقف النبيلة و الطيبة لكل من التقيهم هنا .. التي تزيل يُباب الروح .. و تزرع خيوط الأمل في هذه الحياة .. أجواء الشتاء المنعشة بنسائم البحر الباردة و هي تلفُّ بالمكان من كل جانب .. و الخضرة التي غطت الارض بالكامل بعد كل هذه الأمطار الغزيرة .. والطرق الترابية الممزوجة بالرمال أخذت ترتصف وكأنها معبدة .. تجعلك تسير فيها و اشجار الزيتون و اللوز المتناثرة حول الطريق الذي يسلك بك الى بيت الحاج سالم ابو زيد .. كإن كُل هذه الصور التي إشاهدها من حولي الآن و نحن نتمشى ترمّم روحي التي انهكها التفكير كثيراً .. فأصبحت كجذع منخور أو كقارب في ليل مهجور وحيداً بين كل هذه الامواج .. و لا نعرف للمجهول أي مرسى سوى الإدمان على الخسارات ..
( تفضلوا .. تفضلوا .. يامرحب .. يا مرحب ) مرحبا ً على عادته استقبلنا الحاج سالم خارج ( مربوعته ( الاستقبال ) ) بصوت عالٍ .. ( هيا تفضلوا ..) .. الإستاذ محمد الحسوني سبقنا للحضور هنا .. مختص في تدريس تلاميذ الصف الأول الابتدائي و إمام لجامع بالجوار من بيته في منطقة قريبة من هنا .. طيبته و فطرته النقية يجعلك ان تستحضر امامك شخصية لمتصوف زاهد في هذا العالم كلما اقتربت منه اكثر .. أخيه نوري ابو زيد الذي توثقت علاقتي به اكثر خلال هذه الفترة أيضا كان حاضرا هنا .. دعوا على شرفنا للإفطار معاً .. عبارات الترحيب و الأسئلة عن اخبار أهلنا في العراق و مدى تكيفنا هنا كل ما يطرح الى اللحظة التي نتناول فيها الشاي الآن بعد ان تناولنا وجبة الافطار المعدة بعناية و اهتمام كبيرين بصنوف وانواع كثيرة من الطعام .. بدأ أفراد من عائلة ابو زيد يتوافدون على المكان .. و رحنا نسمَر معاً .. و نتجاذب اطراف الحديث .. شغف المعرفة يتجلى واضحاً لديهم في التعرف على تفاصيل عادادت و تقاليد المجتمع العراقي .. حوارات ومواضيع عامة عامة يناقشها الجميع .. الحاج سالم متحدثاً : كنّا نسمع عن دكتور عراقي في الثمانينيّات يعمل في مستشفى طرابلس و لم نلتقي بإي عراقي من قبل أن تأتوا الى هنا .. أردف قائلاً : سبحان الله ( وتوه نهدرزو مع بعض ( و تواً نتحدث مع بعضنا البعض ) ) .. في إشارة تعاطف منه الى الأقدار و الظروف كيف ان تتغير او تتحول بالناس .. كالأمواج الشاهقة عندما تتكسر على شاطئ البحر ..أو عندما تنطفأ القناديل في الرحلة بين المحطات عندما تدخل غربان الليل من النافذة .. كل هذا الساعات التي تمر وكإنها نزهة في حدائق القلب .. وانت تتحدث معهم بلغة الزهور النقية .. التي تظلّل روحي البعيدة هنا في غربتها ..
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 2
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 3
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 4
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 5
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 6
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 7
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 8
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 9
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 10
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 11
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 12
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 13
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 14