سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 19

إستيقظت منتشياً على نثيث المطر و هو يورق في قلبي كل هذا الإرتياح .. و كل هذا الشعور الدافق بالتفاؤل و الرضا .. في هذا الصباح البهي الذي أخذني محلقاً كطائر مبهور في الأشجار والإفق .. أتلمسُّ ظلي لعلًّه حلم عابر في غمرة كل هذا الإنتشاء .. سحب داكنة و كثيفة ممتدة الى الإفق تغطي المكان بأكمله تسير ببطئ نحو الجنوب .. انظر إليها و أنا أقف في بابا الكرفان متأملاً المكان و مستمتعاً بهذه الأجواء الشتوية التي تبث في روحي دفئاً خاصاً .. غلقت الباب و تقدمت بعض الخطوات نحو الطبّاخ الذي وضعناه في الجزء الأخير من الكرفان .. و الذي خصصناه للطباخ و فصلناه عن مكان الجلوس الذي نستقبل فيه ضيوفنا بدولابين من الحديد و وضعنا فيه طاولة مستطيلة بيضاء مصنوعة من البلاستك .. كان عليَّ أن أقوم بغلي الماء في كل صباح قبل أي شيء آخر وهذا ما أقوم به الآن وأنا أقوم بإشعال الطباخ بعد أن وضعت عليه القدر بعد أن ملأته بالماء .. لا يوجد سخّان للماء هنا و لا يوجد حمّام مخصص للإستحمام كذلك .. سوى دورتين للمياه .. على أيةِ حال لا بدّ أن نتكيف مع هذه الظروف وإن بدت صعبة بعض الشيء .. و هذا ما أقوم به الآن و أنا أقوم بغلي الماء قبل ان يأتي أي شخص الى هنا في اكثر من ساعة ..

إنتهت المحاضرة الثانية اليوم في هذا الصباح و روحي خفيفة مثل نسمة عابرة .. تشع في حقول أحلامها و تبزغ في شموسها كزهر الربيع .. هذا ما كنت أشعر به وأحس فيه وأنا أهمُّ في الدخول الى غرفة الإدارة .. لقضاء وقت الإستراحة مع بعض الزملاء الذين توطدت علاقي بهم .. الأستاذ مصطفى الكوت و الإستاذ مصباح الحفيان و جدتهما جالسين قبلي منشغلين بحديث عابر .. دنوت اجلس في كرسي الى جانبهم بعد إن حيّيتهم .. و جدت ضالتي بهم فهم مهتمين بالشعر والثقافة بصورة عامة .. الاحاديث التي نتبادلها والحوارات تأخذنا بعيدا في جوف التأريخ حيث المتنبي و الفرزدق و أمرئ القيس و الجواهري و بدر شاكر السياب و غيرهم .. محاضرتي بعد ساعة من الآن وانا اتجاذب اطراف الحديث معهم .. الاستاذ مصطفى الكوت شاعر يكتب بالفصحى و الشعبي وهو مدرس اللغة العربية .. خلوق و هاديء جدا و مسكون بالشعر .. والاستاذ مصباح الحفيان مكتنز الثقافة و النقاشات والحورات معه مثرية .. اوضاع العراق ، ظرف السكن هنا ، العادات والتقاليد في شهر رمضان في العراق و ليبيا ، امور تخص العمل .. هذه هي الاحاديث و النقاشات التي دارت بيننا طيلة هذه الساعة التي شارفت على الانتهاء و انا اريد ان أذهب لاكمل ما تبقى من محاضراتي لهذا اليوم .. كما يبدو ليَ إنّهم كالأَزهار لكلٍ منهم لونه و شذاه .. غادرتهم مستأذناً بخطوات بطيئة نحو محاضرتي التي حان موعدها و لا يفصلني عنها سوى هذه الخطوات التي أتمشاها الآن ..

بدأ المساء في صحو تام .. والشمس تعلوا في كبد السماء .. و الاستاذ عبدالله يجلس قبالتي خلف ميز مكتب صغير مثبت على أرضية الكرفان الذي كان فصل دراسي جاهز وضع للمحاضر .. و الى جانبي يجلس زميلنا العراقي الثالث و نحن نتأهب للذهاب الى بيت صديقنا الإستاذ بنور أبو زيد و يأتي الى مسافة بسيطة من بيت الأستاذ سالم ابو زيد .. إلاستاذ بنور مدرس لغة انكليزية لتلاميذ المرحلة الإعدادي ( المتوسطة) .. توثقت علاقتنا به منذ الأسابيع الإولى عند وصولنا هنا .. نذهب اليه بين الحين والآخر في البيت و هو كذلك يمرُّ علينا بسيارته البيجو ( خيمة ( حمولة واحد طن ) ) رمادية اللون .. أمضينا أكثر من ساعة و نحن نتبادل أحاديث مختلفة و نستمع الى الراديو و هو نافذتنا الوحيدة التي نطل بها على هذا العالم المترامي .. رحنا نتمشى الى بيت الاستاذ بنور أبو زيد في أجواء منعشة و كأنك تتنفس عطراً .. أو تلتقط ضحكاتك في هذه الأمكنة التي نطوف حولها ..

توطدت علاقتنا به و كأننا نعرفه منذ وقت طويل .. تكوّرت الفكرة في رأسي عنه مباشرة عندما التقيته ..

وجدناه في إنتظارنا في بيته .. إستقبلنا بروحه المرحة و قلبه الناصع البياض كأغنية دافئة ..

بعد أن تناولنا وجبة الافطار .. أنفتحت شهيتنا على أحاديث السمر الكثيرة والمتنوعة كفاكهة طازجة أو كحلم الطفولة ..

كعادتهم يأتون ليأنسوننا وكأنهم أشجار باسقة برفيف قلوبهم التي أصبحت لنا مرافيء في ظل كل هذا الأمواج المتلاطمة ..