تحت شجرة الزيتون الكبيرة التي تظللنا جميعاً و نحن نجلس على كراسينا البيض المصنوعة من البلاستك قبالة باب المدرسة في هذا الصباح الشتوي البارد .. و أمامنا ساحة كبيرة يحدها من جانب الطريق ( البيستة ) ومن جانب المدرسة ارض زراعية مفتوحة ترتفع شيئا فشيئا الى لتشكل ربوة كبيرة تطل شرقا ً على الوادي القريب من هذا المكان الذي نحن فيه الآن .. الأرض معشبة ومخضرة تتناثر فيها أشجار الزيتون و اللوز هنا و هناك .. نسائم الهواء الباردة و المنعشة تعدّل أمزجتنا و نحن نراقب طلّاب العلوم الهندسية و هم يتبارون في كرة القدم فيما بينهم و يشاركهم بعض الزملاء المتمرسين في اللعبة .. يلعبون بحماس و قوة الشباب و هم يتلقفون الكرة بمهارات تشدُّ الناظر .. يوسف بلقاسم و إسامة إقليص و منير الشريف و ناصر بن عبيد و نوري بن نجاح و ميلود و عبدالسلام الأصقع وعبدالسلام الحجاجي وبقية الطلبة والزملاء الذين توزعوا على الفريقين جعلوا المباراة تغوي في الاشتراك معهم حتى ولو لشوط واحد من المباراة .. كل هذا يجري واستاذ الرياضة البدنية مسعود العوام هو من يشرف على كل شيء .. فهو من ينظم هذه النشاطات و يشرف عليها محكماً تارة و تارة أخرى لاعباً .. و روحه تتدفق حرصاً على الطلبة و محفزا لهم في ان يصقلوا مواهبهم في أوقات حصة الرياضة .. جاء مقترباً منّا يطلب المشاركة في المباراة .. لم أتردد في أن أُلبي دعوته للاشتراك في هذه المباراة رغم حذري الشديد في ان لا أحتك مع اللّاعبين داخل الساحة .. خوفاً من إصابة قد تحدث سيما و إنَّ ساقي اليمنى قد تعرضت لخلع في مفصل الورك الايمن نتيجة لإنقلاب سيارة كانت تقلني عائداً من الجامعة في مدينة البصرة الى البيت نهاية شهر نوفمبر 1989.. تشجعت الى اللعب معهم اكثر عندما شاهدني الطلاب وانا أهم للدخول معهم فأخذ يناديني كل فريق ان العب معهم .. بدأت أتنفس صعيداً و أنا إنطلق معهم بحذر نحو الكرة .. و إنا لم ألعب أي مباراة منذ آخر مباراة لي مع فريق المرحلة الثانية لقسم الهندسة الكهربائية مع فريق المرحلة الرابعة لقسم الهندسة المدنية في بطولة كلية الهندسة قبل حادث السيارة بإسبوع .. هذه المباراة التي لم نتوقع نتيجتها بالمرة بعد فوزنا عليهم لإربعة أهداف مقابل هدف واحد .. و نحن نلعب مع فريق يضم أربعة من أفضل لاعبي منتخب الجامعة .. حتى إننا لم نصدق كل هذه النتيجة فرحنا نضحك من دهشتنا بدل ان نعيش نشوة الفوز عليهم بعد انتهاء المباراة.. لمساتهم و تمريراتهم و قوة اندفاعهم في اللعب كانت مغرية في ان أنسى نفسي واركض بالكرة سريعاً قريباً من المرمى .. و فجأة و قعت على الأرض وشعرت بألم شديد وانا انظر على رجلي وقد إنثنت على ركبتي .. ثواني معدودة حتى نهضت بعد إن عضضت على ألمٍ شديد إسير ببطئ شديد نحو كرسيّي تحت شجرة الزيتون .. إجتمع عليَّ زملائي ليروا ما بي فطمأنتهم في اللحظة دون أشعرهم حجم الألم الذي يقطّع أحشائي .. إستمرَّ اللعب وانا جالس مع زملائي نتفرج مأخوذين بالدهشة و نحن نستمتع بكل هذا المستوى من الاداء للطلبة و للزملاء ..
في الوقت الذي دار حديث مع من يجلسون بقربي من الزملاء حول الحادث الذي تسبب لي بالاصابة في ساقي اليمنى .. حدثتهم عن مراجعاتي لأفضل اطباء الكسور والمفاصل في العراق و هما الدكتور محمد ثامر الحمداني في البصرة و الدكتور عماد سرسم في بغداد والعلاج الطبيعي الذي اجريته لمدة شهرين حتى تشافيت وتركت المسند الذي كنت اتوكأ عليه .. وكان عليَّ أن لا إغامر في اللعب والركض خلف الكرة بكل هذه السرعة والاندفاع .. وإنا بعيد عن الأهل .. فما ذا يكون الحال لو إن الخلع رجع مرة أخرى وقد يكون مضاعفاً .. وأنا ألحُّ على نفسي بهذا السؤال لائماً ..
حتى المبلغ الذي معي نفذ تقريبا سوى من ورقة فئة دولار بقيت عندي انوي تحوليها الى دينار ليبي لتغطية ما احتاج اليه ..
من الذي يقوم بمداراتي لو أدخلت الى المستشفى ويتحمل كل العناء والمشقة التي عانوها أمي و أخوتي بعد الحادث ودخولي المستشفى و بعد خروجي المستشفى .. من يقوم بذلك ؟ .. كل هذا يدور في خلدي ويستفزَّ بداخلي تساؤلات كثيرة عن مواجهة حياة الغربة كلها وحيداً هنا .. و انا اتحدث معهم عن تفاصيل حادث السيارة و الاطباء في هذه اللحظة التي نتابع معا الآن سير هذه المبارة المدهشة ..
انتهت المباراة في الوقت الذي نهضت اسير فيه الى إكمال محاضراتي لهذا اليوم .. ككل يوم نخلد الى النوم عند إنتهاء العمل نريح أجسادنا من الوقوف لساعات طويلة .. لم أنم طويلاً .. لا أعرف بالضبط ماالذي أيقظني بعد هذه الغفوة الفاترة .. هلو الألم الذي ما زال يدب في ساقي و بالتحديد في منطقة الركبة .. أم هي حدة موجة الأسئلة التي إطلقتها على نفسي دفعة واحدة و بقيت تتقافز في ذهني وتركت روحي هائمة في كل هذا الغبار .. سؤال واحدُ منها يكفي في أن يضعك في مواجهة مع تخوم المصائر .. و أن تدرك ما هو خلف الأفق البعيد من المرارة و القسوة التي ستنظرك فيما لو إتتك سهام القدر على حين فجأة ..
خرجت من غرفة النوم لأجد الأستاذ عبدالله جالسا خلف الميز الخشبي في الصالة و هو لا ينام في اغلب الاحيان الا في ساعات متأخرة من الليل .. زوجته وأولاده الذين لم يفارقهم طويلاً في حياته .. ها هو اليوم يغيب عنهم لأربعة أشهر دون أن يكلمهم سوى رسالة أو رسالتين في الشهر .. ناديته راجياً : يا أبا مصطفى دعنا نذهب للوادي لتنفس قليلاً بعض هذا الغم الذي تغلغل الى روحي فجأة .. نهض ملبياً دعوتي و كأنه ينتظر من يقول له ذلك فهو الآخر مغتم يخيم عليه القلق و الحزن لفراق عائلته التي تركها في عمّان .. رحنا نتمشى في بطيءٍ على مهل بإتجاه الربوه .. متخذين طريقنا في الصعود إليها عبر هذا الطريق الميسمي عبر الأدغال والأحراش والعشب وأشجار الزيتون واللوز تتناثر حولنا هنا و هناك .. وإنا أحاول أن لا أطفئ شعلة الروح و إن لا يخبو كل هذا الأمل الذي إدخرته للأيام .. في إن يكون حديث هذا المساء يجعل أرواحنا محلقة كطائر مبهور بالأشجار و إجواء الصحو .. قلت له : حدثني عن أيامك الجميلة التي قضيتها في الكويت و دعنا اليوم من معاناتك في أيام الحصار والمشاريع الخاسرة! .. فراح يغوص في أعماق ذاكرته ليسرد عليَّ السهرات التي قضاها مع أصدقائه في شاليهات الأحمدي في الكويت التي تطل على الخليج العربي .. والطريق يرتفع بنا شيئاً فشيئاً نحو قمة الربوة التي نسر اليها الآن وأشعة الشمس تصل إلينا خافتة تحجبها عنّا سحب بيضاء كثيفة تتحرك بسرعة نحو الجنوب .. بدأ و هو يتحدث بإعتزاز عن تلك الأيام الجميلة تتغير نبرة صوته وكأنها تتخطى حاجز هذا العتمة التي سكنته منذ فترة .. تعالت الضحكات منه في لحظات انتشاء و تفاؤل اخذتني معها كريشة غافية ترسم لوحتي في كل هذا الدفق والهطول الآتي من نثيث الحكايات التي اسمعها الآن ..أصبح روحي أكثر إشراقة من الشحوب الذي اعتراها صباح اليوم .. سألته مقاطعاً : ما معنى ( الجنجفة ) قد كررتها أكثر من مرة وانا لم أسمع بهذه الكلمة من ذي قبل .. تبسم ضاحكاً ثم أجاب : هذه لعبة ورقية للتسلية كما هنا يسموهها محليا ( الشكبّة ) أو نسميها في العراق ( الورق ) ..استمر بسرد قصص الرحلات و السهرات مع أصدقاءه في الكويت .. إذ كان يعيش أفضل أيامه التي لم يبقى منها أي شيء سوى أطلال بأثر في هذه الحكايات التي يبهرني فيها .. وصلنا للربوة ونحن نتطلع الى البحر من بعيد في انظارنا و قد حجبته عنا الغيوم الكثيفة .. الأجواء مبهرة كنبع دافيء أو كنافذة تطل على حديقة الطفولة .. فتنصع الحكايات منها كالبلور فتنبض بالحنين والوجد ..
نزلنا ببطئ وحذر شديد الى الوادي تحت .. و قد إزدحم بأشجار الصفصاف والادغال والاحراش والغرب و بعض البقع من الماء التي خلفتها سيول الامطار وراءها وهي تنحدر شمالاً نحو البحر .. رحنا نتطلع الوادي الكبير والذي لا ينتهي النظر اليه الا عند الافق شمالاً وجنوباً و من ثم عبرنا الى ضفته الثانية نتمشى بغابة كثيفة من اشجار الصفصاف و الكالبتوز و الغرب الى مسافة قريبة ثم عدنا للربوة مرة أخرى .. أجواء تصحو معها النفس و يتعدّل معها المزاح حقاً .. بكل هذه الطبيعة الساحرة و كل هذا العليل الذي ينسم بعذوبته علينا و كل هذا المتعة و البهجة التي تشع بها حكايات استاذ عبدالله .. إنحدرنا مع حافة الوادي جنوباً لنتعرف على المكان الذي ننظر اليه من بعيد طيلة هذه الفترة ولم نصل اليه .. بقينا آخر المساء نتجول في هذا المكان المهجور تماماً ثم عدنا أدراجنا الى السكن ..
الحاج الهادي عمار ابو زيد كان قد دعانا في الليلة الفائتة للإفطار في بيته عندما كان معنا في بيت شقيقه الاستاذ محمد عمار ابو زيد .. علينا ان نتهيأ إستعداداً للذهاب الى بيته الذي يقع بعد بيت الاستاذ الحاج سالم ابو زيد بمسافة قليلة ..
استقبلنا بشخصيته الدافئة مرحباً ..يسئلنا واحدا بعد الآخر عن أخبار أهلنا في العراق و عن أحوال العراق .. و يتفقد أحوالنا فيما اذا كنّا محتاجين الى شيء .. كعادتهم في ولائم الافطار التي دعونا اليها يجتهدون في تقديم أصناف عديدة من الطعام و بكرم باذخ .. رحنا نسمر جميعاً و نطوي الأمكنة والأزمنة و الحكايات كأناشيد فرح .. ونتبادل الدفء لنلتمس لنوافذ قلوبنا ربيعاً زاهراً لتورق الروح سنابل و شموس بعد ذلك الذبول الذي أصابها في الصباح ..
الرحمة والرضوان وعظيم المغفرة لروح الحاج الهادي عمار ابو زيد الطيبة والطاهرة ..واسكنه اللهم فسيح جناتك
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 2
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 3
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 4
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 5
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 6
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 7
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 8
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 9
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 10
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 11
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 12
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 13
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 14
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 15
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 16
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 17
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 18