الرئيسية / الادبية والثقافيه / سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 22

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 22

في هذا الصباح الشتوي و هواءه البارد الذي يلفّ هذا المكان المفتوح من كل جانب .. و الروح تتكتسّر فيها موجات الوجد و الشوق للأهل والإصدقاء والأحبة و الوطن الذي فارقناهم الى غير عودة أو لقاء .. في هذا النشيج الذي اجتاحني دون أن يترك لي فرصة إن أقاوم هذه النوبة التي تعتريني الآن .. لصباحٍ غير مبهج و أنا أجلس بصالة الجلوس في الكرفان الذي يطلق عليه محلياً ( التريلة ) قبل أن تبدأ محاضرتي الأولى لهذا اليوم .. أفكر في أي شيء يطيِّب خاطري و يعيد لي الصفو و الإبتسامة التي أحرص أن ألقى الناس فيها .. علاقتي أصبحت فاترة شيئاً فشيئاً بشركائي هنا في هذا السكن و لم تعد على ما يرام .. بعد سيل الحقائق التي أقوم بكشفها من ما أقترفه النظام من فظائع و جرائم إنسانية بحق الناس لأصدقائنا الليبين الذين نسمر معهم كل ليلة .. وأنا أحاول أن أصرخ بصوتي الى أقصى مداه لو أنه يصل الى كل العالم لفضح هذا النظام الديكتاتوري القمعي .. الصمت و الهدوء يخيم علينا و نحن جالسين و كأننا إجتمعنا في قاعة إنتظار لا نعرف بعضنا البعض .. يحدث هذا كل يوم بعد أن نرجع الى السكن قرابة منتصف الليل .. أنا أعرف جيداً ما الذي يجعلهم يتخذون مني كل هذه المقاطعة لمعظم الوقت في كل يوم و التي لا يعلنون عن أسبابها سوى بالصمت و تجنب الحديث معي بأي شيء .. لكنني مع هذا أبادر كل يوم لتنقية الأجواء مما يشوبها من توتر و كدر بسبب هذا الاختلاف الآيديولوجي المستحكم على علاقتنا في أن تكون متذبذبة بهذا الشكل .. الأستاذ عبدالله يكبرنا بعشر سنين أنا و زميلنا العراقي الثالث .. و كم الحزن و الهم الكبيرين الذي يخيمان عليه لبعده عن عائلته التي تركها في الأردن .. تجعلني دائما مسارعاً للمبادرة في أن أذيل القلب له محاولاً ترميم ما فسد بيننا بعد أسابيع طويلة من الصفو والود .. زميلنا الآخر يتماها بمواقفه مع الأستاذ عبدالله في الدفاع عن نظام الفاشيست بنفي كل ما أقوله من حقائق و فظائع دون الإنتباه إن الناس هنا بدأت تعرف هذه الحقائق عن طريق الفضائيات الكثيرة .. و التي بدأت تفضح بالانظمة العربية و التي تتسم بالديكتاتورية والشمولية من محيطها الى خليجها و من جمهورياتها الى ملكياتها .. فلم يعد أي شيء مخفي على الناس و هي تشاهد كل هذه الحقائق و الفظائع والجرائم التي تحاول الانظمة العربية إخفائها عن شعوبها بكل الوسائل المتاحه لديها . . سواء بشراء ذمم الكتاب أو الرشى التي تقدمها للمؤسيات الاعلامية الكبيرة والمؤثرة لتجميل صورها القبيحة في قمع الحريات وتكميم الأفواه و أغتيال المعارضين والبطش بهم وقتل الأبرياء والإعتقلات و شتى صنوف التعذيب الوحشي للمعارضين .. كل هذا و زميلي يحاول نفي الواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب العراقي في ظل هذا النظام الدموي .. و هو يتصور في قرارة نفسه إن الحقيقة يمكن إخفاءها بالكذب أو التضليل في نقاش أو في جدال عابر .. و هذا هو الوهم الذي يتخيل للكثيرين إن بإستطاعتهم أن يحققوا من خلاله مبتغاهم دونما أي أن يحسبوا حساب لشمس الحقيقة عندما تسطع معلنة حجم الوهم الذي أحاطوا أنفسهم فيه يوما ما .. كل هذا يدور في خلدي و أنا أحاول أن أعدل من مسار العلاقة بيننا لهذا اليوم بما يجعلها تسير بشكل طبيعي دون أن يلاحظ احد فتورها و شبه الانقطاع الذي هي عليه الآن .. دعنا نذهب الى القرة بوللي في نهاية الدوام لنرى ما في صندوق البريد لعله قد وصلتنا بعض الرسائل موجهاً دعوتي للاستاذ عبدالله و هو مطرقا برأسه و يرسم أشكال ومنحنيات على ورقة على ميز المكتب .. إن شاءالله أجابني في هذه العبارة فقط معلنا موافقته الضمنية على الذهاب معا الى القرة بوللي .. إنطلقنا الى قاعات الدروس لإلقاء محاضراتنا في هذا البرد القارس و نحن في أول إسبوع من أول شهر للعام الجديد ..
نحن محظوظين اليوم وقد حصلنا على سيارة تنطلق بنا الى القرة بوللي من هنا دون عناء المشي الى الطريق المعبد و الانتظار او المشي لساعة حتى الوصول الى الشارع العام .. كل شيء متوقع وليس هناك سقف محدد للعناء والشقاء هنا في هذا المكان المنقطع تماما عن سيارات النقل العامة و حتى سيارات الإجرة الصغيرة لتصل الى وجهتك بسهولة .. تمشينا نحو البريد بعد إن وضعتنا سيارة أحد زملائنا في مكان قريب من هنا .. فتحت صندوق البريد بالمفتاح الذي معي الآن و وجدت مجموعة كبيرة من الرسائل قد وصلتنا من العراق و غير العراق .. أخذت أقرأ اسماء الذين بعثوا لي بهذه الرسائل التي وصلتني منهم الآن على أمل أن أقرأ رسائلهم بعد رجوعي الى السكن في سيدي عمير .. رحنا نتبضع من المحلات القريبة ما نحتاج اليه في السكن ثم عدنا أدراجنا الى السكن بعد إنتظرنا في المفترق الذي يؤدي في أحد طرقه الى سيدي عمير .. رجعنا مع أحد أهالي سيدي عمير الى السكن بعد ان عرفنا ونحن نقف في بداية الطريق جانباً .. بعد إن أمضينا بعض الوقت في قراءة الرسائل التي وصلتنا اليوم من الأهل و الأصدقاء هرعنا الى قيلولة بعد يوم عمل وساعتين في التنقل والتبضع والبريد و أجواء الشتاء الباردة التي تأخذك في نوم عميق ما أن تغمض جفنيك .. إستيقظت آخر المساء و قلبي يزداد أنينه و حنينه محاولاً حبس دموعي التي تحاول أن تهطل في المآقي كالمطر وأنا أشيح بوجهي عنهم عند نزول أي دمعه خشية ان يروها وهي تسيل على خدي .. فهي كالقديس مهابة عندي لا أجرأ ان امسحها أو أكفكفها بيدي حتى تأخذ كل مداها في التعبير عن وجداني و ما يجيش داخل نفسي من هذه الغيمة التي تجمعت سحبها في الصباح الباكر في داخلي .. هذا الفاصل من الدموع لم يكن كافياً ليطفأ نار الفراق الذي بدأ يطول يوماً بعد يوم و نحن ننشأ طريق اللّا عودة في علاقتنا مع الوطن ..
فكل هذه الطيور و الأشجار والأرض و السماء و رمال الشواطئ القريبة من حولي مدعوة على أن تكون شاهداً على تلك الدموع التي تنزف بها روحي حنينها وشوقها للأهل والوطن أمام كل هذا العالم .. هذا الحزن وهذا الوجع قد شعلته العبارات التي توسمت بها الرسائل التي وصلتني من العراق و اليمن و امريكا التي بعثوا بها الأهل والاصدقاء .. حتى جعلتني انشج دموعي كالسومريات عندما يحضرنَ قداّس ثكلاهن و يندبن خيباتهن التي لا تنتهي مع آخر مغامرة عابثة لديكتاتور قادم ..
رحنا نتمشى الى بيت الاستاذ جمعة ابو زيد قبيل الغروب فلا شك انه في انتظارننا الآن .. أستقبلنا مرحباً بروح تفيض منها الحياة والشباب والأمل .. حتى إنَّ الوجع الذي تكورّ في قلبي اليوم و هذه الجراح التي تركها كل هذا الوجع والحزن قد لوّنتها ضحكاته العفوية بفرشاة الربيع الزاهية بالفرح و الألق .. في كل هذا المساء الجميل بالضيافة العربية الأصيلة .. والاحاديث العذبة التي تنعش الروح كموسيقى رياض السنباطي أو طالب القرة غوللي او محمد حسن ..

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 2

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 3

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 4

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 5

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 6

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 7

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 8

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 9

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 10

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 11

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 12

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 13

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 14

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 15

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 16

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 17

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 18

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 19

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 20

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 21

جميع الحقوف محفوظةلشبكة الخيط الابيض - شكرا لتعاونكم معنا