الرئيسية / الادبية والثقافيه / سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 23

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 23

بعد هذا الحلم الجميل الذي زارتني فيه أمي و أولاد أخوتي الليلة الفائتة و هم يتجمعون حولها كالعصافير و هي تحط على شجرة كبيرة .. يتقافزون بمرحهم المشاكس بعض الشيء وجمالهم البهي و هي مستأنسة في لهوهم قربها و عبثهم اللذيذ .. و هي تجلس بينهم كقديسة طلَّت عليّ بهيبتها و جلالة قدرها عندما لمحت صورتها و هم متعلقين بإطراف عبائتها البيضاء .. و هي تتمتم في أورادها و تسبح للرب وتدعوه غارقة في طقوسها اليومية بعد ان تفرغ من كل صلاة .. نهضت و كأن روحي غسلت من كلِّ كدر كزهرة ندية يفوح منها العطر ساكنة و مطمئنة و مزاجي معتدلاً و رائقاً .. و أنا أستعيد شريط هذا الحلم الذي جادت عليَّ السماء به بعد كل هذه الأشهر من آخر نظرة رمقتني فيها أمي عندما كانت ترش الماء ورائي و هو طقساً إعتادت أن تفعله معي كلما هممت في توديعها لسفر بعيد إعتقاداً منها إن الماء خير و نماء فيطرد النحس والشر والكدر .. و أنا في يقيني إنها لم تزرني في حلمٍ كل هذه المدة إنها غير راضية عني .. هذا الشعور يساورني كثيراً حتى إنه بات يؤرّقني كلما فكرت بإنني تركتها و هي تعاني من مرض عضال قبل عامين .. بالرغم من إنها تحظى برعاية و إهتمام كبيرين من إخوتي الإثنين الذين يسكنون معها في البيت نفسه .. شعور بالرضا قد إنتابني لحظة أدراكي بإنها متيقنة تماماً في إنني لن أتركها عند أي لحظة قد تحتاجني إن أكون فيها الى جانبها .. و هو الأمر الذي وعدتها به قبل أن أسافر و أكدته لها لحظة توديعي لها عند باب البيت .. وقفت الآن أحيي زملائي بتحية الصباح و إنا في نشوة هذا الحلم الذي أشعر معه انني كنت هناك فعلاً عند أهلي في البيت .. وكأنني جلست قبالة أمي أكلمها عن كل شيء هنا و تمازحت مع أولاد أخي و أنا في وعيُ تام دونما أضعه في خانة الخيال أو تشويش ذهني في اللّا وعي .. هذا الشعور مدّني بدفق عاطفي عارم أجتاح كل الزوايا المعتمة من روحي فراحت تشرق من جديد .. و تتألق كحقل يزهو بالسنابل أو كالحكايات مع رشفات شاي العصر ..
جلست خلف الطاولة أُطالع في مجلة الفصول الأربعة الليبية المعنية بالادب والثقافة .. سميت هكذا لأنها تصدر في كل فصل من السنة .. كإنها كتاب دسم غني بالمقالات لكبار الكتاب و نتاجات الادباء والشعراء الليبين و العرب .. قبل أن أهم في التهيأ للذهاب الى قاعة الدرس في هذا الصباح المشمس الذي بدا لي هاديءُ و جميل .. طلاّبي وطالباتي لاحظوا عليَّ كل هذا الغبطة و كل هذا الإرتياح .. حتى إنهم كلّموني : نرى و كإنك فرح و سعيد هذا اليوم يا أستاذ ؟ إن شاءالله قد وصلتك أخبار سارة من الأهل في العراق .. فأجبتهم : نعم وصلتني مجموعة رسائل من اهلي واصدقائي و اخبارهم طيبة و شكرا لكم و بارك الله فيكم و في سري أحدثهم أن ما وصلني من العراق هو طيف أمي الذي جعل روحي تتوقد كل هذا التوقد بعدما ذوت وذبلت كل هذا الذبول .. حتى زملائي لم يفتهم إنني اليوم أكثر إنطلاقة و إبتسامة من ذي قبل .. بادرني أحدهم بالسؤال عن أحوال الأهل و الأسرة و أردف : اليوم أنت في أفضل أحوالك من الصباح أكيد وصلتك رسائل مطمئة من الصباح .. أكدت له ذلك بعد إن شكرته على مشاعره و إهتمامه بي ..
إنتهت محاضرات هذا اليوم وانا ما زلت أحسُّ بالسعادة لما رأيته من إهتمام من طلابي و زملائي و هم يبادلونني هذه المشاعر الإنسانية في كل مداها من طيبة و صدق ..
لم أنم هذا المساء فما زلت أحتفظ بشاطي منذ هذا الصباح و كأنني لم ألقِ خمسة محاضرات متتالية لطالبات المعهد و طلاب العلوم الهندسية ..
جلسنا معاً في صالة الجلوس نتحدث تارة و نصمت تارة وأنا أمسك بيدي مجلة الفصول الأربعة التي لم انتهي من قراءة مقالاتها وتقاريرها ذات المواضيع الشيقة و المثيرة للفضول بنفس الوقت ..
إقترحت كعادتي على الأُستاذ عبدالله أن نتمشى خارج السكن لكسر هذا الروتين المميت وأن نستمتع بهذه الأجواء الشتوية المشمسة التي تأخذ الواحد أخذا ً .. نهض مستعداً كإعلان على موافقته فهو الآخر مثلي يميل للتغيير دائماً و لا يحب المكوث طويلا في السكن .. مضينا نخطو بتمهُّل و هدوء نحو الوادي القريب و الهواء بارد نسبياً تتصاعد تياراته تارة وتهدأ تارة أخرى و في كل الإتجاهات في حين إن قرص الشمس ما زال معلقاً في كبد السماء .. فراح منطلقاً في أحاديثه يطوي بنا شايلاهات الأحمدي في الكويت و مغامرات الصيد في الخليج أيام الشتاء و هيجان البحر و نحن نتمشى في هذا الطريق الميسمي الذي يصعد بنا الآن شيئا فشيئا نحو قمة الربوة التي تطل على الوادي .. لا أقاطعه في إسترساله في الحديث الاّ مستعلماً عن مصطلح أو مكان لم أسمع به أو أقرأ عنه من ذي قبل .. توقفنا على الربوة نستمتع بالخضرة والأشجار المتناثرة حولها و نحن نمد بأبصارنا بعيداً نحو البحر الى مدى تطابقه مع الأفق .. أحس بعمق أنفاسي هنا أكثر في هذا المكان و روحي تتشبع بكل هذه الخضرة والأشجار التي تتلألأ و هي تعكس خيوط الشمس لناظري و قلبي يعمر بكل هذا الدفق البهيج الذي ترسله لي الجهات الستة ..
أخذت نفسي تشع بوهج من السعادة و الفرح يأخذاني بوثوق أن أقصُّ على الإستاذ عبدالله حكايات من ليالي البصرة في أماكن كثيرة قد سكنتها وذهبت اليها أثناء فترة الدراسة مع أصدقائي وزملائي هناك ..أغرانا الوادي حتى نزلنا فيه على مهل و بحذر من الوقوع و إن لم يكن عميقاً .. شعوري هنا في الوادي يختلف تماما عن مثله فوق الربوة .. تقف أساريرة عاجزة عن الإنفتاح تماماً ..المكان مدهش في في اشجار الصفصاف الكثيفة والكبيرة نوعا ما .. التأمل هو كل ما يمتعني و يشدني هنا في جوف هذا الوادي .. نجلس القرفصاء و بإيدينا أعواد من أشجار الصفصاف قبالة البركة التي نحن أمامها الآن .. نتطلع في الوادي صامتين .. احرك العود في ماء البركة وانا أتأمل هذا الوادي و هذه الاشجار و هذا الكون وهذه البركة التي خلفتها سيول الامطار الغزيرة التي هطلت قبل إسبوع من الآن .. أدرك أن هذا الكون واسع جداً و الوادي ساحق في التأريخ جدا و الماء في دورته في الطبيعة قديماً قدم الأزل وأنا و من قبلي الملايين بعشرات آلاف من السنين أو أكثر بكثير قد تعاقبنا على هذا الوادي وسيتعاقب عليه الملايين من بعدي بعشرات الآلاف من السنين أو اكثر بكثير .. و هو باقٍ على صمته و سكونه المخيف حتى جغرافيته هذه التي شكلت كل هذا منظره الذي يدعك تقف أمامه متحيرا و مندهشا و صامتا حد العجز الإّ إن تتأمل فيه اكثر و أكثر و يفتح لك آفاق واسعه من الأفكار و الأسئلة المؤجلة إذ لا مجال للبوح بها .. قضينا أكثر من ساعة حول هذه البركة بين جلوس و وقوف نطيل النظر فيها و نمد بأنظارنا بعيداً الى ن يتوارى الوادي بعيداً مع الأفق .. هممنا بالرجوع للسكن بعد هذه الساعات الممتعة التي مرت بلمح البصر و جمال الطبيعة الأخاذ الذي يتحف البصر بالدهشة و الإنبهار و يبهج الروح بنثيث المشاهد الخلابة .. رجعنا نصعد الى الربوة من نفس المكان الذي بقي من أثر السالكين له في عبور الوادي الى الجهة الأخرى .. خطواتي تسجل كل هذا الدفء و هذا البهاء و الارض بدأت امامنا في خضرتها الملونة بأزهار طبيعية أخذت تنمو و تكبر مع هطول الامطار في كل مرة .. حتى و صارت كإنها لوحة زاهية تشكل مع أشجار الزيتون واللوز المتناثرة حول المكان كل هذا الجمال و كل هذا الألق .. بدأ قرص الشمس يحمر آذنا بوقت الغروب في اللحظة التي وصلنا فيها السكن الآن ..
بعد إن أكمل إستعدادنا للذهاب الى بيت الحاج محمود أبو زيد إنطلقنا وسط هذه الاجواء المنعشة نسير وكل ما حولنا من طبيعة وخضرة و ندى و اشجار و بيوت تشعرك بالطمئنينة والأمان و نوافذ الأمل .. وصلنا لبيته فوجدناه بإنتظارنا ليستقلنا بحفاوة و مشاعر باذخة بالطيبة و التقدير بروح تشي بفطرة نقية و أخلاق رفيعة كسمة و سجية فارقة لعائلة البو زيد .. رحنا نزجي الوقت بعد أن فرغنا من إفطارنا بأحاديث طعمها لا يشبه الاّ طعم الفرح و عبقها لا يشبه الأ عبق المحبة و نحن نسمر الى منتصف الليل بينهم في كل هذه الأجواء التي تحلق بنا بعيدا على ضفاف الحكايات و المحطات و حافات التأريخ بكل هذا الوجوه الناضجة و نشوة اللقاء معهم وهو يحتضننا بكل هذا الرفيف من المشاعر الصادقة ..

مواضيع الكاتب 

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 2

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 3

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 4

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 5

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 6

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 7

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 8

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 9

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 10

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 11

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 12

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 13

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 14

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 15

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 16

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 17

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 18

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 19

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 20

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 21

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 22

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 23