الرئيسية / الادبية والثقافيه / سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 24

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 24

ساكنُ و هادئ هكذا بدا لي صباح هذا اليوم الشتوي و المشمس و هو يشعرك بدفءٍ لذيذ بنسائمه البحرية الباردة و المنعشة للروح التي تلف بالمكان من كل جانب ..سوى ألحان البلابل و هي تشدو و زقزقات العصافير و هي تنتشر و تتقافز حول الأشجار المتناثرة حول المكان بكثافة .. و كل هذا الدفق العاطفي الذي اجتاح روحي في الاعماق و انا اتحدث مع نفسي و أكرر عليها ذات الأسئلة التي لم أجد لها إجابات محددة للحظة التي أجلس فيها الآن في صالة السكن بإنتظار أن يجيء وقت محاضرتي الأولى لهذا اليوم .. متى سأصل محطتي الأخيرة ؟ فالكثير من أصدقائي يصلون أوربا و كندا بطرق شتى .. رسائلهم التي تصلني تباعاً تشير الى رحلات شاقة محفوفة بالمخاطر والمغامرات حتى وصلوا وجهاتهم الى تلك الدول التي أصبحت أمانيَّ كل العراقيين بل و عالمنا الجنوبي من الكرة الأرضية .. سؤال آخر يطرق ساحة أفكاري و أمانيي بشدة هو : هل سأستمر في عملي هنا أم سأحاول أن ابحث عن عمل في شركات النفط أو غيرها ؟ .. سيما و أن معدل صرف الفرنك السويسري و الدينار الليبي اللذان أتقاضهما شهرياً في احسن حالاته لا يصل مجتمعان الى أكثر من ( 300 دولار أمريكي ) و هو لا يكافئ كل هذه الغربة و المعاناة و البعد و السكن الذي كيفت نفسي عليه معللاً لها بإن كل هذا سينتهي في غضون هذا العام .. كل هذا يدور بخلدي الآن بهدوء و سكينة دون ضجر أو قلق لعلّها أماني أو أحلام يستدعيها عقلي في فسحة من الأمل و الإصرار والعزيمة على المواصلة بخطوات أكثر ثقة لتحقيق ما أطمح اليه .. في الوقت نفسه ما زلت لم أتخذ أي قرار أو خطوة بعد في أتجاه السفر الى أوربا أو الحصول على فرصة عمل أفضل فبيقت أماني مؤجلة أتحدث بها في سري أو مع زملائي هنا .. فنفسي و عقلي لم يهدأ لهما بال و لا أمل في أن يستقرّا في لجة الأسئلة التي يعجُّ بها رأسي دون هوادة ليل نهار ..
وفي غمرة كل هذه الأماني و كل هذا الصباح الذي بدا رائقُ كنافذة أمل تفتح شهية هذا اليوم بمشاعر الأرتياح و الابتهاج .. و إذا بأحد الزملاء الليبيين يطرق الباب بهدوء ففتحت له الباب محيياً به و طالباً منه أن يجلس داخلاً .. جلس قبالتنا في أحد الكراسي الفارغة في صالة السكن بوجه يشع بالفرح و روح غارقة في الهدوء و السكينة .. يتحدَّث إلينا عن سروره و أعتزازه بالدعوات و ليالي السمر التي نقضيها ليلياً مع الزملاء و الأصدقاء من الليبيين .. و هذا ما نحسه فعلا عندما نتحدث بفخر و أعتزاز عن أي عراقي بمشاعر الإنتماء .. هذا الشعور الذي يكبر معنا و يتجاوز حدود الجغرافيا شيئاً فشيئاً حتى يصبح شعور إنساني يتماها مع كل المواقف الإنسانية النبيلة التي نلمسها في النوع البشري على الكرة الارضية .. هذا الشعور الكوني الذي بدا طاغياً على جلستنا الآن و نحن منتشيين بقدومه المبهج الينا إذ جاء ليدعونا للإفطار عنده في البيت نهاية هذا الاسبوع .. بعدما عرف إننا مدعوون للافطار لكل هذا الاسبوع عند زملاء و أولياء امور طلبة و أصدقاء لنا هنا في سيدي عمير ..
دقائق معدودة على بداية محاضرتي الأولى لهذا اليوم قبل أن ينصرف زميلنا الليبي بعد ما أتحفنا بوجبة إفطار شهية نفثتها روحه الشفيفة الممزوجة بالمرح و أحاديثه المورقة طيبة و سخاء ..
إنتهت محاضرات اليوم و أشعة الشمس آخذه بالإنحسار الى خيوط ضعيفة تخفت بين الحين و الآخر في ظل كل هذه السحب الكثيفة التي بدأت تتجمع بسرعة الرياح لتغطي المكان بأجمعه الى مد البصر و إنطباقه مع الأفق البعيد من كل جانب .. كل هذا يحدث و رياح باردة أخذت تهبُّ من الشمال قادمة من البحر كإنها شلالات ثلج قد فتحت لها كوّة على المكان .. بردُ قارس تصطك له أسناني و أربعة محاضرات متتالية أنهكت معها قواي كانت كافية في أن تجعلني أغطُّ بنوم عميق هذا المساء و أنعم بكل هذا الدفء الذي أشعر به الآن و أنا أستيقظ من هذه القيلولة ..
أصوات الرعد تتعالى بشدة في أرجاء المكان و كأن البحر قد هاج بأمواجه نحو السماء بكل هذه الصواعق المخيفة التي ترسلها نحو الأرض .. ما زالت و هي على هذا الحال لأكثر من ساعة هذا ما أخبرني به الاستاذ عبدالله الذي أعتاد على أن لا ينام في المساء دائما و كنت اتوقع حدوثه بالفعل .. جلست قبالته في الصالة ننتظر معاً هطول أمطار غزيرة حسب توقعاتنا بعد كل هذه الصواعق التي أخذت تزلزل الأرض و الغيوم الداكنة و المتجمعة حول المكان بكثافة عالية جدا .. بدأت قطرات المطر تتساقط على المكان و الاستاذ عبد الله يغوص عميقاً في ذاكرته يغرف لي من خزين الألم و المعاناة .. في رحلات الصيد في عمق الخليج أثناء فصل الشتاء و تعرض مركبهم لخطر الغرق لأكثر من مرة في ظل العواصف التي يهيج معها البحر .. و أنا أنصت متأملاً كم هي قاسية حياة العراقيين عندما تلفظهم الحياة مرة واحدة للبحر أو للمجهول وترميهم الأقدار دون أن يهتم بهم أحد أو حتى أن يفكر بهم أحد على الأقل .. العالم كله يتفرج دونما أية رحمة أو شفقة أو مبدأ او شرف أو إنسانية .. عالم تحكمه المصالح لا مبادئ ولا حتى الشعارات الباهتة التي يتشدق بها الغرب أو الشرق .. رحت أغوص في ذاكرتي صامتاً دون أينما إشارة مني و أنا أستعرض شريط مساندة الشرق والغرب للنظام الديتكتاتوري القمعي .. قفزت الى ذهني رأساً النظارة المعتمة ذات العدسة الشفافة ( ألمانية الصنع ) التي كان يضعها على عيوني مفوض الأمن أحمد عند إقتيادي من الزنزانة التي نتقاسمها نحن الطلاب الأربعة في شعبة الطلبة السياسيين في الامن العامة في بغداد ( القصر الأبيض ) الى غرف التحقيق كل صباح و مساء عام 1987 طيلة أيام التحقيق .. المانيا مع مثيلاتها من الدول الغربية تساند هذا النظام دون أي واعز شرف انساني أو ضمير أو مبدأ المهم لديهم ( البترول ) وعقود السلاح والمعدات التي يرسلونها للعراق أو كل دول العالم ..
هكذا هو العالم بإختصار و هكذا هي معاناة العراقيين التي تعتقت الى حكايات و قصص يرتشفونها اوقات إصبوحاتهم و أمسياتهم و سمرهم .. إستمرَّ الأستاذ عبدالله يقصُّ عليَّ حكايات المركب و البحر و الغروب و الشتاء و العواصف في الوقت ذاته راحت قطرات المطر تسقط متسارعة بكثافة شديدة حتى صارت تهطل بغزارة لم إشاهدها هنا بهذه الكيفية منذ مدة .. أكياس كبيرة من البلاستك الشفاف قد هيئناها لنقي بها أنفسنا من كل هذا السيل المنهمر التي تمطر به السماء علينا .. في الوقت الذي نهم به للذهاب الى بيت الاستاذ سالم الحجاجي الذي يبعد بمسافة قرابة الخمسمائة متر من السكن .. دقائق معدودة حتى سمعنا منبه السيارة يتكرر لأكثر من مرة إشارة لقادم إلينا .. ذهبت لأفتح باب المدرسة الرئيسي وإذا به الاستاذ سالم الحجاجي في داخل السيارة بانتظارنا .. ناديت بصوت عالي على زملائي إن يأتوا لنذهب سويةً .. إنطلقنا باتجاه بيت الحجاجي و الأمطار ما زالت تهطل بغزارة دونما توقف حتى إن الأرض و الطرقات أمتلأت بماء الامطار وراحت تتجمع في برك صغيرة و كبيرة هنا و هناك والتي تسمى محليا بال ( غدران ) .. بيت الحجاجي هو الآخر كبيت الحاج سالم أبو زيد أو بيت بنور ابو زيد نأتي اليه دون دعوة أو موعد كلما ضاقت نفوسنا من وحشة السكن و أنقطاع المكان .. نقضي الساعات هنا معا نسمر في أحاديث كثيرة معاً و نشاهد برامج الفضائيات الكثيرة .. والده و عمه و اخوته كان في استقبالنا حال وصولنا الاستقبال ( المربوعة ) في ظل هذا الخير العميم الذي راح يغسل الاشجار و يسقي الزرع و ينبت العشب ويزيده خضره و بهاء ..
بعد إفطارنا رحنا نتزود من خزين ذكرياتنا و معرفتنا و صداقتنا الحديثة العهد لكننا قد ألفناهم وكأننا قد تعرفنا عليهم منذ عشرات السنين ..

مواضيع الكاتب

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 2

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 3

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 4

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 5

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 6

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 7

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 8

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 9

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 10

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 11

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 12

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 13

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 14

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 15

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 16

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 17

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 18

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 19

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 20

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 21

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 22

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 23

جميع الحقوف محفوظةلشبكة الخيط الابيض - شكرا لتعاونكم معنا