في الهزيع الأخير من الليل أستيقظت لأجد نفسي في واحة من الصور و الذكريات التي تمر أمام عيني سريعاً و بكل هذا الدفق العاطفي المنبعث منها الذي أشعر به الآن .. انعم بدفء لذيذ و أنا ممسك بغطوة ذات فراء كثيف أغطي بها كل جسدي وأنا على سريري رغم كل هذا البرد القارس الذي يلف المكان و جو الغرفة الصغيرة التي نحن فيها الآن .. صوت البحر الهادر و هو هائج يكسر طوق كل هذا السكون الموحش الذي يطغي على المكان .. و كأنك ركبت أمواج البحر المتكسرة بقوة و هي تضرب بك على بعضها في دوي صاخب و هو يعلن تمرده بعناد على الطبيعة التي تريد أن تخضعه لقوانينها ..
يزداد هيجان البحر مع كل هذه العواصف الشتوية التي تزيد تارة و تخف تارة بينما اصوات الرعد وهي تتعاقب مع كل هذا الأمواج الهادرة .. تتوجس روحي معها خيفة وهي تقف على حافات الهلع و كإنها تقتلع معها الكرفان الذي يؤوينا وترميه بعيدا .. بعد كل هذه النشوة العابرة التي غمرني بها شريط الذكريات لحظة إستيقاظي من صوت البحر وهو يهيج مع عواصف الشتاء .. لا أعرف ما يشعران به زملائي الإثنان هذه اللحظة إذا كانا قد إستيقظا من كل العاصفة الرعدية و صخب الهدير للبحر الهائج هذه الليلة في ظل كل هذا الظلام الدامس الذي يذوي الروح للغرفة بعد إطفاء المصباح الوحيد فيها قبل أن نهجع .. رحت اتحسسهم وأنا متسمراً على سريري دون أن أتحرك أو أتكلم ببنسة بعد أن هرب النوم من عيني تماماً في كل هذا الأجواء العاصفة و الصاخبة التي تحدث الآن .. لعلي أجد مع أحدهم حديثاً يطمئن نفسي مع كل هذا الغموض و القلق الذي يجرفه لي الخوف الآن .. أبواب الفصول الحديدية تضرب بقوة مع كل هذا العواصف التي يعجُّ بها الساحل دون إنقطاع محدثة أصواتا مرعبة و كأنها إنفجارات أو قصف طال البناية .. حتى الأوراق التي تركها الطلّاب تحركها سرعة الريح في الممرات و باحة البناية فتحدث صريراً مزعجاً ينهش الروح نهشاً .. في هذه الأثناء التي ارتعد بها خوفاً و هلعاً و قلقاً من أن يصيب الكرفان شيئا من هذه العاصفة التي تتصاعد شدتها و قوتها إستيقظ الإستاذ عبدالله و هو منزعجاً و متسائلاً عمّا يحدث بقلق شديد .. عاصفة قوية اخذت تتصاعد شدتها شيئاً فشيئاً حتى تغلغل الذعر و الخوف بداخلي خوفاً من إن ينقلع الكرفان من مكانه أو ينفتح سقفه أو تتكسر نوافذه في هذا الليل الشتوي العاصف .. هرع سريعاً الى سيكارة لينفثها في صالة الجلوس للكرفان بينما أقف في باب الكرفان أُشاهد السماء و هي تبرق و تزبد بكل هذه الزوابع الرعدية التي لم تهدأ بعد .. إدلفت الباب الى الوراء و أنا أهم في عمل السحور قبل أن يحين وقت آذان الصبح بساعة كما هو كل يوم .. سبقني الاستاذ عبدالله لعمل الشاي و هو يرتجف من شدة البرد الذي تصطك له أسناني الآن و أنا أغسل بالمقلاة التي اريد أن اعدُ بها طبقاً سريعاً من البيض و الطماطم قبل أن يداهمنا الوقت .. جلسنا حول الطاولة نتناول ما أعددته و الكرفان قد أصبح وكأنه قطعة من الثلج من شدة البرودة في الليل الشتوي القارس و العواصف الرعدية التي ما زالت تعصف بالكرفان و ابواب الفصول .. لا توجد أي نوع من التدفأة سواء زيتية او كهربائية سوى بعض لحظات الدفء و انت تقترب من الطباخ عند اعداد الطعام أو الشاي في لحظات البرد القارس التي نعيشها الآن .. بدت أمزجتنا شاحبة و نحن نترقب ما ستفعله هذا العاصفة اذا ما اشتدت اكثر من كل هذا الجنون الذي تحدثه الآن .. بقينا يخيم علينا الوجوم كأرواح متخثرة من القلق تلثغ بنشيج ساخن يفتّنا من الداخل دون أن نستطيع عمل أي شي قبل أن نمسك الصيام لهذا اليوم ..
بدأت العاصفة تهدأ رويداً رويدا و تخف شدتها شيئاً فشيئا حتى تكشف الصباح لنا عن سقوط بعض الأغصان الكبيرة من أشجار الزيتون و اليوكالبتوز التي تحيط بالمكان أحدها قد وقع بين الجدار الذي يحيط بالبناية و الكرفان و بعض الأضرار البسيطة لزجاج بعض الشبابيك التي لم تحكم بشكل جيد لبعض الفصول الدراسية ..
بقيت مضطجعاً في سريري هذا اليوم الخميس الذي لا توجد لديّ محاضرات فيه الى الساعة التاسعة قبل أن أنهض للتهيأ للسفر الى مدينة مصراتة .. الاستاذ فريد أحد أقربائي يدرس في المعهد العالي للمعلمين في مصراته قد بعث لي برسالة قبل مدة فيها عنوانه بالكامل يخبرني أنه وصل مؤخرا قادماً من اليمن .. حزمت أمري على السفر الى هناك بعدما أخذت معي له بعض ما قد يحتاج اليه من معلبات سيما و أن أكثر من جمعية هنا تزودنا بكل ما نحتاج اليه من مواد غذائية و معلبات بأسعار رمزية مدعومة من الدولة .. و قفت جانباً بداية الطريق المعبد الى أن جاءني احد الأهالي فأوصلني معه الى محطة الركوبة في القرة بوللي لاذهب منها الى مدينة الخمس الساحلية .. هذه المرة الثانية التي اذهب بها الى مدينة مصراته بعد المرة الأولى التي ذهبنا بها مع الاستاذ عامر مصباح الشريف لأخذ سلفة مالية من هناك .. انطلقت بنا سيارة الأجرة البيجو ( سبعة راكب ) مسرعة نحو مدينة الخمس وهي تطوي الطريق الساحلي في كل هذا الصحو و الاجواء الباردة و قد تعلقت الشمس بكبد السماء .. وصلنا مدينة الخمس بعد ساعة من لحظة انطلاقنا من مدينة القرة بوللي و من هناك لم أنتظر طويلاً حتى إنطلقت بنا سيارة أجرة نوع دايو نيبرا حديثة الى مدينة مصراتة .. مسافة تزيد على المائة كيلو ميتر هي التي قطعتها هذه السيارة الحديثة و هي تلتهم الطريق الساحلي بجنون بعد إن مررنا بمدينة زليتن في منتصف المسافة تقريباً .. وصلت المعهد الزراعي في مدينة مصراتة الذي يسكن فيه أقربائي أستاذ فريد الساعة الرابعة مساءً .. لم يصدق رؤيتي لحظة وصولي اليه و هو في الحديقة إذا كان يتوقع أن أصله في العطلة الربيعية في أحسن الأحوال اذا لم يكن ذلك في العطلة الصيفية ..
أخذ الحقيبة مني و وضعها جانبا في أحد زوايا غرفته الخاصة التي يسكن فيها لوحده .. ليأخذني في جولة في أروقة و حدائق المعهد الواسعة والمنتشرة في أرجاء المعهد .. ذهب بي أولاً الى دار أستراحة الملك محمد ادريس السنوسي التي تتوسط المعهد والقريبة من البناية التي يسكن فيها مع اكثر العراقيين الذي يعملون في تدريس الكليات والمعاهد والثانويات هنا في مدينة مصراته الكبيرة .. حدثني عن تاريخ هذا المكان حيث انه كان استراحة للملك عند انتقاله بين طرابلس و بنغازي قبل أن تحدث ثورة الفاتح على النظام الملكي عام 1969 فيحوّل الى معهد زراعي متكامل .. رحنا نكمل جولتنا في هذا المكان الذي توحي بناياته و معداته و أجهزته التي بدت مهجورة بعض الشيء إنها قد واكبت كل التكنلوجيا الحديثة في مجال الزراعة و الثروة الحيوانية .. حتى إنني توقف أتأمل الأجهزة التي يمكن من خلالها أن يأخذ الحليب من الأبقار التي لم أشاهدها من قبل بشكل مباشر في حقول الأبقار .. رجعنا من جولتنا التي استغرقت اكثر من ساعة الى احد أصدقاءه في السكن الذي يجتمعون لديه كل مساء للإفطار في غرفته .. عرفّهم عليّ عند دخولنا عليهم بعد إن حييّتهم وجلست بينهم نتجاذب اطراف الاحاديث التي بدأت على غير عادتها كما قالوا بعد أن أضحى مجيئي أليهم هذا اليوم تغييراً من نمط حياتهم الساكنة والهادئة .. رحت أجيب على أسئلتهم عن المكان الذي اعمل فيه و طيبة الناس هناك في سيدي عمير حتى إنَّ بعضهم تمنى أن يكون هناك بعيد عن هذه المدينة التجارية الكبيرة .. و التي يغلب على طبع أهلها الجدية و الصعوبة في التعامل بعض الشيء على حد قول أحد الذين كانوا معنا على مائدة الأفطار ..
رجعنا الى الغرفة بعد أن تناولنا طعام الإفطار معهم و رحنا نكمل أحاديثنا عن أهلنا في العراق و حياتنا الجديدة هنا وراح يحدثني عن محطاته الكثيرة في السفر والعيش في البلدان والتي إبتدءها نهاية السبعينيات بتدريس اللغة العربية في جامعة بإقليم جاوة في أندنوسيا و عمله في اليمن لاربع سنين أيضاً هناك و كثير من البلدان الأخرى التي سافر اليها .. الأمر الذي جعله مسكوناً بالسفر و القدرة على التعايش مع الناس على إختلاف ألوانهم ولغاتهم و عاداتهم و أديانهم .. هذا الأمر بدا واضح عليه من هدؤءه و سكونه التام و السلام الداخلي والإطمئنان الذي يعيشه بكل ثقة هنا لوحده برفقة الكتاب .. و الذي لا يفارقه إلاّ لحظة وصولي اليه عندما لم أجده في غرفته بل وجدته منكباً على القراءة على كرسييه في حديقة السكن ..
يفيض بالحكمة و الثقافة و الهدوء على حديثه و شخصه فمرت هذه الليلة و صباح اليوم التالي سريعة كأنها لحظات وانا مستمتع بهذا الزيارة له والتي كنت افكر فيها لحظة وصول رسالته اليّ .. وعدته بزيارة أطول من هذه الزيارة في المرة القادمة .. بعد أن أخذني في جولة رائعة الى مركز المدينة في الصباح قبل أن يودعني في محطة السيارات لأستقل سيارة أجرة ذاهبة الى طرابلس حيث مدينة القرة بوللي في الطريق قبل أن أصلها ..
مواضيع الكاتب
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 2
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 3
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 4
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 5
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 6
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 7
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 8
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 9
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 10
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 11
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 12
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 13
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 14
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 15
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 16
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 17
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 18
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 19
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 20
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 21
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 22
سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 23