انتشرنا حول المطاعم و المحال المفتوحة الموجودة في البوابة ( رأس جدير ) التي تقع على الحدود بين ليبيا و تونس لشراء ما نحتاج اليه و نسد رمقنا من شدة الجوع الذي فرضته الساعات الطوال للرحلة واجراءات البوابات الحدودية .. سواق الحافلات و مساعديهم ينادون بالتوجه صوب الحافلات لمواصلة الطريق نحو مدينة طرابلس .. لا نعرف ما تبقى من الطريق وفي أي وقت سنصل المدينة .. واصلت الحافلات سيرها و الساعة تشير الى منتصف الليل تماماً .. النعاس و الإعياء بدى واضحا على الجميع .. انوار المدن هي من تدلنا عليها من بعيد في هذا الليل الخريفي الدامس في حلكته .. الكثير من حولي أخذ يغط بنوم عميق .. أنا الآخر لم أعد أقاوم السهر .. قرابة اليومين و لم يغمض لي جفن ، حتى إن سائق الحافلة لم يعد يقوم بتشغيل المسجل الذي كان يشتغل على طول الرحلة .. سوى حفيف الطريق وغطيط من غطّوا في النوم .. أخذتني إغفائة لبعض الوقت أزاحت عني الكثير من هذا الإعياء الذي تراكم على جسدي منذ يومين .. إستيقظت اتفحص ما حولي .. لا أعرف اين نحن الآن أو متى نصل وجهتنا الأخيرة الى العاصمة طرابلس .. بدأت أغوص بذاكرة الأحداث .. تتقافز أمام عيني عشرات بل مئات الصور .. اتوقف عند بعضها .. أتأمل فيها بصمت .. كل هذا يجري وأنا أرجأ أن يمضي الوقت بسرعة كي نصل .. اخذت اخلد الى النوم من دون أن اشعر .. و الحافلة تواصل سيرها ملتهمة الطريق وسط إطباق الليل و انوار المدن التي تتكشف للناظرين بين الحين و الآخر .. إستيقظت من نومي والحافلة تقترب من العاصمة بعدة كيلومترات هذا ما تأكد لي العلامات الدالة الكبيرة التي نراها على جانبي الطريق و أعمدة الإنارة المتوزعة بإنتظام على الطريق جعلتنا نرى الإشياء و كأنه في وضح النهار .. الطريق يقترب من البحر تارة ويبتعد تارة أخرى .. لايمكن تمييزه بوضوح وسط هذا الظلام بالرغم من كل هذه الانوار التي اكتسحت الظلام على جانبي الطريق .. بدأت الحافلات تجتاز الشوارع و الأحياء في هذه الساعة المتأخرة من الليل و المدينة في هدوء و سكون تام سوى بعض السيارات القليلة .. النظرة الأولى للمدينة توحي بأنها ككل المدن الكبيرة في الكثير من معالمها التي لم تتضح بشكل كافٍ وسط هذا السكون المطبق و الليل الدامس .. ينتابك الحماس للتعرّف على تفاصيل المدن عندما تشاهدها لأول مرة .. هذا ما كنت اشعر به وانا احاول التعرف على هذه المدينة .. وصلت الحافلات الى معهد نصرالدين القمي في حي جنزور الذي تهيأ الى إستقبالنا .. و كما يبدو كل شيء يسير وفق برنامج معد مسبقا .. ونحن في الهزيع من الليل هرعنا للنوم حال وصولنا .. فليس هناك لنا حاجة بشيء اكثر من النوم بالرغم من أن لجنة الاستقبال في المعهد قد هيأة وجبات الأكل السريعة والمشروبات والماء .. بعد رحلة متواصلة قرابة اليومين قبل ان تقلع بنا الطائرة من عمّان .. باحة المعهد كانت كافية لإستيعاب هذا العدد .. حيث تم تهيأة أفرشة و أغطية جديدة لم تفتح من حقائبها من ذي قبل بأعداد كافية لذلك .. نسيم البحر الذي تخلل المكان و جسدي المرهق من السفر الشاق كافيان أن جعلاني أخلد الى النوم ما أن وضعت رأسي على الوسادة .. أستيقظت مبكراً وأشعة الشمس أخذت تضع اللمسات الأولى لنهار جديد وحياة جديدة و لربما مفاجئات جديدة .. لا أعلم أن سيستقر بي الحال .. أنا الآن أستقر في قعر المجهول فعلاً .. هذا المجهول الذي أصبح هاجساً يصاحبنا ليل نهار في كل مصائرنا و تطلعاتنا بل وحتى في أحلامنا .. ليبيا بلد كبير جدا .. ومساحته بحجم مساحة العراق لأربع مرات .. فماذا لو أن اللجنة المشرفة على توزيعنا نسبتني الى معهد في مدن الجنوب و هي كثيرة و التي تقع في تخوم الصحراء الكبرى لشمال أفريقا .. القلق و هواجس الخوف و الإفراط في التفكير من يكون مكان عملي بعيدا عن مدينة طرابلس .. أو المدن الساحلية على أقل تقدير هو من سيطر عليَّ كلياً في لحظات الصباح الباكر هذه .. الانتكاسات و الخذلان والضياع الذي عشناها وشبح المجهول الذي أصبح ظلنا أينما نذهب جعل من نفوسنا مستسلمة طواعية في كل مواجهة جديدة في الحياة .. صرت مستعداً لتقبل كل شيء و إن كرهته نفسي .. و هذا أصعب شيء على الإنسان أن يختار دون إرادته .. سوى أنّ الأقدار ساقته سوقاً دون أي مجال أو أن يخير في ذلك .. فأنا في طريق اللّا عودة هنا .. كل هذا يدور في ذهني و تتقافز الأفكار مزدحمة الى مخيلتي دفعة واحدة دون رحمة أو هوادة .. تناولنا وجبة الفطور في أحد القاعات .. الناس طيبون هنا .. يبادرون في المساعدة بدون تردد .. حتى إنَّ أحدهم دلني على محل ذهب قريب من المعهد و أصطحبني إليه لصرافة ورقة فئة 100دولار أمريكي بالعملة الليبية .. و هو أمر غير مصرح به رسميا ولايمكن ممارسته في العلن عن طريق محلات الصرافة الاعتيادية والتي تجدها في كل مكان .. يمارسه تجار الذهب بالخفية .. و هنا فأن القوانين تضطرك لإنتهاك القوانين بدون أن تشعر ..اذ لم يتبقى لديَّ من الدنانير الليبية التي استبدلتها بالدنانير التونسية في البوابة على الحدود الا بضعة دنانير لا تكفي ليوم واحد .. شكرته كثيرا على ما فعله معي .. و هو يجيبني بكلام لم افهمه حينها لكنني حفظته جيداً ( ما درناش شي .. ) .. رددها أكثر من مرة .. أي ( لم نعمل شيء ) .. أيُ نبل هذا .. إشارة مطمئنة بعثها لي هذا الرجل الذي غادرني للتو في أول يوم هنا في هذا البلد الذي لم أعرف عنه شيء الاّ في نشرات الأخبار و الصحف و كتب التأريخ و الجغرافية المدرسية و فليم عمر المختار .. هممت بالرجوع للمعهد باتجاه القاعة التي تتواجد فيها اللجنة المشرفة على التنسيب .. لم تمضي الاّ ساعة حتى باشرت اللجنة بتسليم كتب التنسيب للمتعاقدين على المعاهد المنتشرة في كل المدن .. من شرق البلاد الى غربها ومن شماله الساحلي الى جنوبه الصحراوي .. صرت أقلق مرة ثانية لكن هذا الشعور سرعان ما تلاشى مع إقتراب لحظات المواجهة مع مصير مجهول .. فمهما يكن هذا المصير فهو ليس بأسوأ من مصير الموت الذي واجهته في حياتي لعدة مرات .. هذا وحده كافي لأن أعيش برضا على أي حال أو وضع تصيرني الحياة إليه .. تم تسليمي كتاب التنسيب بعد انتظار يشوبه القلق و الإحباط .. لم أعرف الى أين أنا ذاهب في تلك الأثناء .. ما زلت اغوص في المجهول .. عليَّ أن أسأل أحد زملائي في الكلية الذي صادفني قبل ساعة و قت أنتظر .. يعمل إستاذ هنا في معهد جنزور منذ عامين .. أنهى عقد عمله هنا لهذا العام الدراسي الذي سيبدأ نهاية الشهر .. يروم الذهاب الى أوربا .. حضر هنا لإستقبال الوافدين الجدد الى ليبيا كي يظفر بصديق أو زميل سابق .. وجدته بإنتظاري خارج القاعة .. مسك بيده كتاب التنسيب .. إرتسمت على وجهه إبتسامة عريضة .. مبادراً : انت ذاهب الى أجمل الأماكن في ليبيا .. استرسل في طمئنتي : منطقة( المرقب ) تقع الى الشرق من طرابلس بحوالي مئة كيلو متر تقريباً و أغلب مناطقها تقع على الساحل بما فيها مدينة ( الخمس ) الذي تقع فيه الهيئات الإدارية لجميع المؤسسات للمنطقة .. وكان قد زارها لأكثر من مرتين في سفرات مع أصدقاءه .. ستة هم من تم تنسيبهم الى مدينة الخمس في بادئ الأمر .. إتفقنا على الذهاب الى محطة المواصلات الرئيسية لنستأجر سيارة من هناك الى مدينة الخمس .. قمت بتوديع زميلي الذي صادفته هنا .. و وعدته ان أرجع لزيارته قبل أن يغادر الى تونس في طريق وجهته الى أوربا .. إستأجرنا سيارة أجرة من نوع بيجو 7 راكب .. أخذ إثنان منّا يبحثون عن كشك للسكائر فما لديهم قد نفذ كما يبدو .. أحدهم كان زميل لي في الكلية فكنّا سويةً في كل الرحلة .. وجدنا كشك للسكائر فيه شاب في مقبل العمر .. يلبس قبعة تقيه من حر الشمس .. صار نظري على علب السكائر المفتوحه .. يبيع منها في المفرد لمن يريد .. قلت لهم : إن بيع السكائر بالمفرد لم يكن متعارف عليه الا بعد الحصار وسوء الأوضاع الإقتصادية للناس وهذا مؤشر إن الحصار هنا قد خلق أوضاعا مشابهة لنا في العراق ..