الرئيسية / الادبية والثقافيه / سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 7

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 7

في صباح علّوصي بهيج بنسمات الخريف الباردة التي تهب من البحر ..و الذي يبعد الى الشمال من بلدية العلوص ببضعة كيلومترات .. والأشواق الحارقة للقلب والروح تمتزج مع شريط الذكريات التي تحفر بالأعماق شجناً لذيذاً تخفيه نشوة الآمال و الطموحات التي تنتظر من السنين و الأيام أن تسرع في تحقيقها .. لا شيء يعكرُ هذا الصفو .. نهضت مبكراً .. السفارة العراقية في طرابلس قد دعت المقيمين هنا لإجراء التعداد السكاني العام .. يوم 16/101997 هو موعد إجراء التعداد السكاني الذي هممنا فيه للذهاب للسفارة في طرابلس هذا الصباح .. هي المرة الثانية التي سأزور بها طرابلس طيلة هذه الفترة في العلوص .. أنا وإثنان من زملائي العراقيين هنا نرتدي أجمل و أفضل ماعندنا من ملابس رسمية .. بدلات وأربطة عنق أنيقة .. حدثوني عن القنصل المحبوب لدى العراقيين في ليبيا ( حميد عبد عون ) من أهل مدينة المسيب في محافظة بابل .. يقوم بجمع التقارير التي يكتبها بعض الوشاة عن المعارضين و من يتهكّمون على النظام هنا ويقوم بإتلافها بين الحين و الآخر .. حتى يأس هؤلاء الوشاة من محاولاتهم البائسة لإيذاء الناس هنا .. حديثهم أرتسم في مخيلتي وكأنه نخلة عراقية باسقة في عزها و شموخها عن هذا الرجل الذي سأراه هذا الصباح بعد أن نصل الى طرابلس اليوم .. قفزت الى مخيلتي صورة جندي الإستخبارات النبيل الذي أنقذ حياتنا في يوم ممطر بالخوف و الرعب واليأس والإحباط .. جندي الإستخبارات خالد من أهل كربلاء هو من ساعد على تخلصينا أنا و أحد رفاقي من قبضة مفرزة الإستخبارت الخاصة في آخر نقطة تفتيش قبل ( جبل قنديل ) .. كان ذلك بعد إعتقالنا في دائرة أمن الناصرية في العطلة الربيعية عام 1986 .. إذ تم الاتفاق مع أحد المهربين لإيصالنا داخل الحدود الإيرانية كي نكون في مأمن من قبضة النظام و عيون رجال الأمن التي وضعتنا تحت الرصد والمراقبة .. إذ نسّق آزاد زميلنا في الجامعة و هو كردي يسكن مدينة كركوك بعد ترحيلهم اليها من منطقة سنكسر المتاخمة الى ( جبل قنديل ) بعد حرب الشمال منتصف السبعينيات .. والده من عناصر ( البيشمركة ) البارزين في منطقة سنكسر هو من نصحنا للهروب عن طريق ( جبل قنديل ) الذي يقع على الحدود بين العراق وايران .. لولا المحاولة الأخيرة لخالد في إنقاذنا من مفرزة الإستخبارات بعد توقيفنا في السيطرة لكنا في عداد الموتى حينها .. الحرب مستعرة تلتهم الآلاف الشباب وهم في عمر الزهور .. مفرزة خاصة للإعدامات قد إعُدت في مقر الفرقة 24 للجحافل الخفيفة .. و التي تمسك بهذا القاطع لكل من يحاول الهرب الى داخل الحدود الإيرانية .. قبلنا بإسبوع تم إعدام إستاذ جامعي و عائلته يسكن بغداد في مقر الفرقة بعد أن القت القبض عليهم هذه المفرزة المعدة لتتبع الفارّين من الجحيم .. كم هي إعداد الضحايا و الخسارات لولا وجود هؤلاء النبلاء في هذه الأماكن .. إنهم نبلاء حقا عندما يعرضون أنفسهم لعواقب الإمور من أجل الناس دونما أي مقابل ..
إنطلقت بنا سيارة الأجرة سريعا نحو طرابلس .. كلي شوق أن أتسكع في هذه المدينة الكبيرة التي يعبق منها التاريخ والحضارة والأماكن التراثية الجميلة والشوارع الكبيرة التي تنتشر على جانبيها المحال والبنايات الكبيرة .. طرابلس ضربت جذورها عميقا في الماضي البعيد أيام الإمبراطورية الرومانية .. وصلنا السفارة بعد ساعتين تقريبا ً .. باحة السفارة و قاعة الاستقبال الرئيسية أمتلئت بالعراقيين المقيمين في الكثير من المدن الليبية .. بعضهم قد جاء من أماكن بعيدة جداً في الجنوب .. لمسافات بعضها يصل الى الثمنمائة كيلومتر تقريبا .. وجدت هنا بعض من زملائي في الكلية .. تم إجراء التعداد في قاعة الاستقبال بعد إن دفعنا رسم ( عشرة دنانير ليبية ) .. ذهبت الى مكتب القنصل ( حميد عبد عون ) لإصدِّق أحد وثائقي الجامعية المترجمة الى اللغة الانكليزية .. لطيف و نبيل للغاية كما حدثوني عنه .. انه فعلا نخلة عراقية باسقة بالطيبة والحنية على العراقيين .. مسك بالوثيقة وأخذ يتفحصها .. وبدأ يمازحني .. أين أتيت بهذه الوثيقة من سوق ( مريدي ) .. سوق مريدي معروف في أحد الاحياء الشعبية في بغداد و هو سوق مشهور في تزوير الوثائق و دفاتر الخدمة العسكرية و نماذج الاجازات للجنود .. قلت له : هذا كل ما خرجت به من العراق .. ردَّ عليَّ بحنو : ( تدلل أخي وأنا أخوكم هنا و حاضر لكل شيء قد تحتاجوه وهو يجول بنظره للجالسين قبالته في المكتب ) .. ودعته بحراره بعد أن صدَّقَ لي وثيقة التخرج .. ذهبنا بعد ساعة الى شارع الرشيد في مركز المدينة .. يشبه الى حد كبير شارع الرشيد في بغداد .. يتعامد مع شارع كبير مثله .. انه شارع عمر المختار هو الآخر تتناثر المحال والمقاهي و المطاعم على جانبيه .. قضينا وقتا ممتعا ونحن نجوب الشارعين ذهاباً ومجيئاً .. إذ تتوق روحي شوق الى هذا التسكع الذي ينعش القلب و يبهج النفس .. هممنا لأحد المطاعم الكبيرة في شارع عمر المختار .. وبعدها أخذنا أدراجنا لنعود الى بلدية العلّوص .. بعد يوم حفل بأوقات جميلة والتعرف على القنصل النبيل في السفارة العراقية و ساعتين من التسكع في اجمل شوارع طرابلس وأعرقها كانت بمثابة ترياق للروح .. هذا ما شعرت به فعلاً واحسسته عميقا في وجداني ليحفر مكانه بعيدا في أقاصي الذاكرة الجميلة منها جنبا الى جنب مع ذاكرة الوجع والهم التي لا تنضب هي الأخرى ..