مضى أكثر من شهرين مذ غادرتهم جميعاً .. أمي و أخوتي و أخواتي و أقربائي و أصدقائي .. لم أرى أحد منهم و لم أسمع صوت لأحدهم الى هذه اللحظة التي أنا فيها الآن .. فلم تزل الإتصالات مقطوعة بين البلدين ..بل لم تصلني أي رسالة جوابية على ثلاثة رسائل كان قد بعثت بها الى أهلي عندما كنت في العلّوص .. إنّها منافي قسرية .. فالوطن قد لفظ أبناءه دفعة واحدة الى هذه المنافي دون رحمة .. لينعم الديكتاتور في حلمه المريض أن يعيش الى الأبد .. فالأمة لايمكن لها أن تحيا بدونه .. فهو الأوحد و الأقوى والقائد الضرورة .. هذا وغيره ما يجول في خاطري وسط شعور بالحزن و أنا أصمت دون أن أكلم أي أحد .. أخذت مشاعر الحنين تجدُّ بي الوجد و تفتَّ فؤادي فتْ .. و تقطع أحشائي و تؤرق منامي وسط هذه الغرفة المزدحمة بنا .. الكل لاحظ هذا الوجوم .. لم أستطع أَنْ أَخفي مشاعر الحزن هذه .. فقد زادت كثيراً عن قدرتي على تحمّلُ كل هذا البعد دون أن أي إتصال أو رسالة تطمئنني عليهم على الأقل .. الحاج سالم أبو زيد هو أكثر من يلاحظ كل هذا بقوة بفراسة تميز شخصيّته .. من الرعيل الأول لمعلمي مدرسة الاستشهاد للتعليم الأساسي .. يشغلون المكان في المساء ففي الصباح يكون لطلاب وطالبات المعهد والعلوم الهندسية للكهرباء والاعدادي .. قبل إسبوع كنا في ضيافته في البيت .. بيته هو الاقرب للمكان هنا .. لا يبعد سوى مائتي متر تقريباً .. يشعرك بالأمان و طيبة أهلنا في السبعينيات و نقاءهم بعفويته و فطرته النقية .. يرمي الى بعيد دائما .. كان معنا في كل ما نحتاج اليه .. دون أن يشعرك بملل أو ضجر .. عندما يرى منا احد على حالي هذا فإنه يأتي للمواساة وللتخفيف بإسلوبه المفعم حكمة وإنسانية و كلماته التي لم تفارقني ابدا ( اتركها على الله فهي تأتي ) .. ذهبت في اليوم التالي للعلوص املاً في أن تصل رسالة من أهلي .. الرسائل الثلاثة التي قد بعثتها اليهم تحمل عنواني الجديد على صندوق بريد احد الأصدقاء العراقيين في العلوص .. كانت فرحة غامرة و أنا اجد رسالتين لي قد وصلتا قبل يومين عند صديقي حسام استاذ اللغة الانكليزية في ثانوية الهادي العرفة واكثر مما تربطه علاقة صداقة قوية بالاستاذ علي حسن .. اخذني الى مكتب الاستاذ علي حسن .. كان إستقبالاً حاراً وكأنه يستقبل أحد اولاده و قد فارقه كل هذه المدة .. ذهبنا انا و حسام الى السكن بعد ان ودعنا الاستاذ علي حسن .. حدثني عن الاخبار التي تصلهم عن الاستاذ يوسف إنه بعد وصلوله هناك بإسبوع .. قد أصبح امام جامع المنطقة التي يسكن فيها في مدينة الخمس … قضيت يومين رائعين هنا .. بغمرة الرسائل التي وصلتني من الأهل .. كتبت رسالتين أحدهما للاهل و الثانية لصديقي ورفيق دربي في إعتقالي الأول عام 86 في أمن الناصرية و الذي كان معي في محاولة هروبنا من قبضة النظام في ( جبل قنديل ) و ايضا كان في توديعي في حافظ القاضي في بغداد قبل شهرين ونصف الشهر تقريباً .. وصلت بناية المعهد في المساء .. لا توجد خطوط نقل بين هذه الاماكن .. فأمّا ان تقوم بإخذ سيارة أجرة .. أو تقف على قارعة الطريق ليأخذك من هو في طريقه .. أوصلني أحدهم وبيته قبل ان نصل مكان المعهد بكثير .. الاّ أنه لم يتوانا في إيصالي للمكان دونما أي مقابل .. فهؤلاء النبلاء يكحلّون عيون الحياة بإيثارهم وكرمهم فيمنحنوها معنى و طعم آخر دائماً .. غير الذي تجرَّه علينا ظروفها المعقدة و الصعبة ..
وجدت زملائي في الغرفة في صمت وهدوء تام .. و علائم الوجوم على وجوهم بائنة بشكل جلي .. كما يبدو و كأنه مشكلة كبيرة قد حدثت هنا بعد غيابي عنهم .. لربما قد جرى بينهم خلاف قوي .. لم أشأ أن ابادرهم في معرفة ما حدث .. رحت أخمِّن من خلال الوضع الذي وجدتهم عليه .. جلبت لهم ما أوصوني اليه من العلوّص .. الاستاذ عبدالله احد العراقيين معي في المعهد و هو الاكبر سناً من بيننا .. رحنا نتمشى خارج البناية .. هذا ما نفعله كل يوم وسط هذا الهدوء الذي يخيم على المكان .. حدثني عن المشكلة التي حدثت مع احد الاساتذة المصريين .. والتي تم إحتواءها بحكمة و تعقل من قبل الموجودين و قت الحادثة .. بعد تحذيره من عدم تكرار هذا التصرف أو السلوك الذي يتعارض مع سياسة الدولة وحتى مع الحس الوطني والعروبي للشعب الليبي بالضد من اسرائيل و ( إتفاقية كامبديفد ).. فالجميع هنا تكتم على الموضوع خوفا من تعلمه الجهات الامنية فيكون المكان تحت أعين الامن العام دائما .. هو نفسه الذي كان يوقظنا متى شاء و يجود القرآن بصوت عالٍ و نحن غارقين في نوم عميق .. إذ قام بلصق صورة كبيرة للرئيس المصري ( انور محمد السادات ) في الغرفة .. فلا يهدأ الحال و ينشرح الصدر .. الاّ و ان يظهر لك احدهم لينغّص عليك اللحظات الجميلة .. التي تعيش نشوتها و معنويّاتك لم تشهد كل هذا الارتفاع منذاكثر من شهرين .. و يثير قلقك من إنطباع سيء قد يؤخذ على المكان .. وقلق من أن يتسرب الموضوع للجهات الأمنية .. لحظاتنا تتأرجح دائماً بين المد والجزر .. بين القلق و الإطمئنان .. بين الخوف و بين الأمان .. بين نوازع الخير وبين نوازع الشر .. بين الفرح وبين الحزن .. بين الجمال و بين القبح .. بين الحب وبين الكراهية .. هكذا هي الحياة كما يبدو بكل تجلياتها .. نمضي في دروبها و نأخذ بعبرها ونستقي من تجاربها علّنا نحقق غاياتنا .. هذا كل مادار بين وبين الاستاذ عبدالله قبل نعود الى البناية …