الرئيسية / الادبية والثقافيه / سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 16

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 16

هممنا مبكرين في هذا الصباح الذي إتشحّ بالتفاؤل الذي حثه في نفسي نشوة الهواء العليل الذي تخلل المكان بنسائمه البحرية الباردة .. للذهاب الى مدينة الخمس لإجراء الفحوصات الطبية ( الصدر – الأيدز – إلتهاب الكبد الفايروسي ) التي تتطلبها إكمال إجراءات الإقامة برفقة زملائي العراقيين ..
العصافير التي تزقزق فرحه بهذه الاشجار الباسقة و الخضرة التي بدأت تنشر بساطها على الأرض في كل جانب من هذا المكان .. وكأنها تقرأ في كتاب جديد لنشيد الحياة والمستقبل ..هكذا بدا لي الصباح مفعماً بالأمل و النشاط وشعور قوي بالرضا و الارتياح .. في اللحظة التي أقف بها الآن في بداية الطريق الذي يفصل مزارع التنمية من على جانبيه مع زملائي في انتظار أي قادم لنذهب معه الى العلوص أو القره بوللي .. لم ننتظر كثيراً حتى جاء احد الأهالي و قد تعرف علينا من بعيد .. توقف قائلاً و مرحباّ : ( هيا تفضلوا نكلكم معاي ( نقلَّكم معي ) … ) .. رحنا نتجاذب أطراف الكلام في الطريق معه .. هيئتهُ و حديثه يدلاّن على تعليم و ثقافة عالية .. كان في طريقه لمدينة الخمس الأمر الذي خفَّفَ عنّا معاناة التنقل .. الخضرة و البساتين و خيوط الشمس التي تغوي بالمواويل أو حكمة يانعة أو فكرة من ربيع القلب الذي أنهكهه كل هذا العبء .. أضحت معها كل لحظات الطريق و كأنها نسمة عابرة بعطر باذخ .. ودعنا مغادرا الى وجهته للمجمع الاداري في المدينة لإكمال بعض الاوراق الخاصة به بعد إن أوصلنا الى المبنى الذي نجري به فحوصاتنا الطبية .. بعد ان تم اخذ العينات الاّزمة للفحص ذهبنا معاً الى وسط المدينة لقضاء الوقت قبل ان نعود لأخذ النتائج ..
المدن الكبيرة ينبعث منها عبق التراث و التأريخ و حكايات العابرين .. تموج شوارها بآثار من خذلتهم أحلامهم و أمانيهم التي ظلت مؤجلة الى الأبد .. دثرتهم الحياة في جدول هزائمها المتواصلة .. ما أقسى الأقدار على المرء في أن تنتنهي رحلته دون أن يحقّقَ حلمه .. أو دون أن يصل الى مبتغاه .. هكذا تشعرني المدن الكبيرة حين اقترب من شواهدها اكثر .. في كل بناياتها العتيقة و مقاهيها القديمة و صخب وضجيج السيارات و المارة في دروبها و عيون المارة و هي تتفحص الغرباء و كل المتسعكين في كل هذا التيه .. حتى أخذت أتعفّر بريح الأمزجة التي خلفتها الأرواح الهائمة و المبهورة في حلمها المخادع .. تلك الحكاية القديمة التي تقفز الى ذهني حالما أمر بهذه المدن المتخمة بالمخذولين الى حد هزائمهم المؤكدة .. يزدحم عقلي بالأفكار كلما مرَّ شريط الخيبات كومضة سريعة من أمامي .. رسائل رفيقي فاهم الأخيرة و هي تحمل في سطورها ذات الامثال الشعبية .. التي كان يعيدها على مسامعي في لغته الانكليزية الرصينة دائما .. عندما نتسكع في شوارع بغداد متوجسين خيفة من عيون النظام ونحن نقضي يوم او يومين هنا في بغداد قبل أن نذهب الى كركوك في كل مرة .. للتنسيق مع زميلنا آزاد ليساعدنا للهروب خارج العراق من هذا المصير الذي كان بانتظارنا .. آثار أقدامنا ونحن نتسكع في تلك الشوارع بقيت شواهد على تلك الايام العصيبة و حفرت عميقا في الذاكرة .. ظله معي دائما و روحه ترفرف من حولي تخفق بالدفيء و تورق في نوافذ قلبي وجد وأسى عميق .. رحنا نتمشى ببطىء في شارع المدينة الرئيسي .. طلبت منهم أن أمرَّ على صديقي المهندس وضّاح و الذي يعمل في مكتب ضوء للحاسبات في هذه اللحظة التي أقف بها الآن أمام المكتب .. كانت زيارة سريعة كررت فيها دعوتي له بزيارتي لسيدي عمير .. واصلنا خطواتنا المتباطئة من أمام المحلات .. قمنا بشراء ملابس شتائية ثم عدنا لنأخذ نتائج الفحوصات .. و جدناها جاهزة و قد ثبتوها في ورقة الفحوصات و من ثم عدنا بسيارات العلوص .. حسام ينتظرنني بفارغ الصبر فقد تأخرت عليه كل هذه المدة .. فوصولنا لبعضنا أمر ليس بالسهل .. وجدناه يقوم بإعداد وجبة الغداء .. كان لقاء حميمي حار جدا .. فكنت بحاجة كبيرة الى اللقاء به فهو يشعرني بالارتياح كنبع صافٍ.. جلسنا نسأل بعضنا البعض عن احولنا و اخبار أهالينا و مواضيع شتى دونما اختبار .. بادرني مبتسماً بالقول : الحمدلله انه تم نقلك الى سيدي عمير .. أردف قائلاً : إن صاحبك الإستاذ يوسف قد داهمته قوة أمنية بعدما ثبت لديهم إنه من جماعة أخوان المسلمين ويقوم بنشاط إخواني في مدينة الخمس .. واستطاع الهرب قبل ان يصلوا اليه .. وهذا الذي عرفته من أصدقائي الليبين هنا والذين هم على صلة بالموضوع بعدما شخصّوا نشاطه هنا أيام وجودك معنا .. لم يثير دهشتي الموضوع فأنا كنت قد لاحظت تحركاته و عرفته من هذه الجماعات في الأيام الأولى التي سكنت معه هنا في العلوص .. فقلت له : انا على يقين إن الله سبحانه وتعالى ينظر بعين الرحمة لكل دعوة تطلقها أمي عندما يشتد بها الشوق لي من هناك و أَشرت بيدي نحو الشرق .. هذه القديسة التي وهبت حياتها من أجلنا لا بد أن تكون لدعواتها مستجابة بمشيئته تعالى .. هذا الذي فهمته من علاقتي الروحية على فطرتي مع رب الكون المطلق .. تركنا وذهب الى المطبخ .. فنادى وهو في المطبخ : سوف أفاجئكم بالوجبة التي أقوم بإعدادها .. فناديته : لا تبقى مفاجئات يا عزيزي حسام .. إعتدنا عليها .. كل يوم والحياة تفاجئنا بما لم نتوقعه أو نحسب له حساب .. نادى مرة أخرى : ( اليوم غداكم باجة مال طلي ( رأس الخروف و أرجله ) ) (.. ضحكنا بأعلى أصواتنا وقد فاجئنا بما لم نتوقع انه صادف مجيئنا الى هنا مع هذه الوجبة التي يحبها كل العراقيين .. لكن طريقة اعدادها ليست بالسهلة .. تناولناها بشراهة فأنا عن نفسي لم أتناولها منذ مغادرتي العراق .. قام حسام بإعدادها بعناية فهو يجلبها من محل قصابة لأحد إصدقائه ..
اتفقنا على القيام بسفرة الى مدينة لبدة الأثرية التي تقع جوار مدينة الخمس بعد إنتهاء شهر رمضان الذي أوشك على الحلول .. قضينا ما تبقى من اليوم معه الى آخر المساء .. ودعناه عائدين الى سيدي عمير بسيارة إجرة ..
تنفست روحي كالبرعم الندي .. وهطلت مشاعري على المدن و الطرقات والصباحات كأغنية دافئة .. وانتفضت كالعشب يبسط لونه الاخضر على لون الجدب الشاحب .. هكذا هو اللقاء بالنخيل و السنابل …

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 1

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 2

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 3

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 4

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 5

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 6

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 7

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 8

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 9

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 10

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 11

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 12

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 13

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 14

سلمان عبد مهوس: حدث قبل ربع قرن 15

جميع الحقوف محفوظةلشبكة الخيط الابيض - شكرا لتعاونكم معنا